حجة الإسلام العلامة أبو حامد الغزالي برز نجمه وعلا كعبه في العلم وهو شاب حدَث ، وقد اتخذه شيخه إمام الحرمين الجويني معيدا له حين رأى نبوغه وتميزه على أقرانه، وكان الجويني رحمه الله قد كتب كتابه الشهير في أصول الفقه المسمى (البرهان في أصول الفقه)، وتفنن في تلغيزه وتعقيده وسكب مباحث علم الكلام فيه، حتى سمي هذا الكتاب بـ (لغز الأمة)، وفي هذه الفترة صنف تلميذه الغزالي كتابه في أصول الفقه (المنخول من تعليقات الأصول) وعرضه على شيخه الجويني فقال له: دفتني وأنا حي، هلّا صبرت حتى أموت.
بمعنى أن كتابك غطى على كتابي، ولاعجب أن يسبق التلميذ شيخه أحيانا، فالتوفيق من الله، ومن يقرأ الكتابين يرى الفرق جليا بين عمق الجويني ومتانة مادته، وبين سلاسة الغزالي وتقريبه الدرس الأصولي منخولا من المباحث التي لاتمت للأصول إلا تملّحا، وهو بهذه التسمية يشير إلى كتاب شيخه الذي أدخل في المباحث الأصولية ماليس من صلبها، فكان النخل الغزالي لمادة الأصول، على أن الغزالي بعد فترة من الزمن، ولعامل السن وطول الدرس والمراجعة وسعة الاطلاع لم يرتضِ كتابه المنخول في طريقته وبعض مباحثه وآراءه، فلوى عنان فرس علمه، وعاد من جديد ليكتب في أصول الفقه كتابه الفذ (المستصفى من علم الأصول) وهو الذي كاد يدفن منخوله ويسحب بساط شهرته في جماله وحسن ترتيبه ودقة بحثه، وبين المنخول والمستصفى تتجلى حقيقة أثر عامل الزمن وسعة الاطلاع والنضج الفكري والبحثي.