يتوهم كثير من الناس أن مجرد اختلاف العلماء في مسألة من المسائل، يبيح للمسلم أن يختار منها ما يشتهيه، وهذا -بإجماع أهلِ العلم المختلفين أنفسهم- خطأٌ؛ ونص على هذا المعنى أئمة؛ كـ أحمد والبخاري والمزني
صاحب الشافعي، وابن حزم، وابن عبد البر، والشاطبي، وأبي الفرج بن الجوزي، والخطابي وابن تيمية وغيرهم:-
قال ابن عبد البر في «التمهيد»: «وقد أجمع المسلمون أن الخلاف ليس بحجة، وأن عنده يلزم طلب الدليل والحجة ليتبين الحق منه، وقال في «الجامع»: «الاختلاف ليس بحجة عند أحد علمته من فقهاء الأمة؛ إلا من لا بصر له، ولا معرفة عنده، ولا حجة في قوله».
وقال الخطابي: «ليس الاختلاف حجة، وبيان السنة حجة على المختلفين».
ومن زعم أنه لا يأخذ إلا بمسائل الإجماع، فليعلم أن من مسائل الإجماع: أن الخلاف لا يُسوغ ترك الدليل البين تقليدًا لفقيه وقد نص على هذا الأئمة الأربعة؛ وذلك أن هذا يجعل مجرد ورود الخلاف، كورود الدليل على الإباحة؛ كما لو جاء دليل خاص على أن شيئا ما مباح أو حرام!
وهذا فهم خطير للخلاف؛ فأقوال الفقهاء في ذاتها ليست في مقام الأدلة.
وقد بلغ ببعض الناس أن يجعل من وجود الخلاف مسوغا لترك الدليل البيّن، فجعلوه أقوى من الدليل، فعُكِست القاعدة الشرعية؛ فبدلاً من أن يكون القرآن والسنة حاكمين عند الاختلاف، جعل الاختلاف حاكما عليهما! قال الله:- «وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله» وقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم:- «إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله»
فلم يجعله يحكم بما يرى مع وجود النص، مع أنه نبي مؤيد، ولما ذكر الله الاختلاف، لم يأمر العلماء والناس بالاختيار كما يريدون؛ وإنما ارجعهم إلى النص؛ فقال: «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول».
والله لم يرجع الناس إلى الخلاف؛ لأن كل خلاف فهو حادث بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وليس من الدين، ولكن الله يعذر أقوامًا غاب عنهم الدليل واجتهدوا، ولا يعذر آخرين؛ فالتوسعة من الله ليست على ذات الخلاف، وإنما على اجتهاد المجتهد وأثره عليه، ولو كانت التوسعة في ذات الخلاف بعينه، لكان الأولى للفقهاء أن يبحثوا عن مسوغات للخروج من الإجماع؛ ليحدث خلاف؛ ليكون توسعة ورحمة؛ وهذا خطأٌ وضلال.
والله تعالى أخبر بوجود الاختلاف قدرًا، وعذر المجتهد المستفرغ لوسعه رحمةً منه، لكن متى لاحَ له الدليل، وجب له أن يَرْجِعْ، ففهمه مهزوز، والدليل ثابت، وفي زمن الفقهاء السابقين في القرن الثاني والثالث لم تُجمع الأحاديث والآثار في الكتبِ جمعًا محكماً، كما هو عند المتأخرين، فكان الفقيه إذا أفتى بقول خطأ وهو مأجور، تتابع المتأخرون على تقليده، وقد ظهر لهم دليل غاب عنه، فيعذر الفقيه المجتهد المتقدم؛ لغياب دليل عنه، وربما لا يعذر المقلد؛ لأن الفقيه المتقدم اجتهد، والمقلد المتأخر ترك الدليل، وأخذ ما يشتهي ويهوى فقط؛ ولهذا تجد كثيرًا من الناس يقلد كل فقيه بما يشتهي حتى تجتمع فيه الشهوة في صورة فقه!
وقد يخطئ الفقيه، ويصيب فقية آخر؛ فمن ظهر له دليل، وجب عليه أن يأخذ به؛ لأن الله يسأَل الناس يوم القيامة عن اتِّباع المرسلين؛ لا تقليد الفقهاء:- «ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين»، والله أنزل الكتاب؛ لينزع به الخلاف: «وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه» والعقل يدل على أن تتبع الرخص يمرض الأبدان والأديان؛ فتتبع رخص العلماء يفسد الدين، وتتبع رخص الأطباء يفسد البدن.
ومن يجعل الشهوة والرغبة مُرَجِّحًا للاختيار، كمن يجعل حلاوة طعم دواء الطبيبِ مرجِّحًا لصلاح علاجه، وكثيرًا ما يحتاط الناس لأبدانهم وليسوا أطباء، ويتساهلون في احتياطهم لأديانهم؛ بحجة أنهم مقلدون وليسوا فقهاء!
ويظهر الهوى في تقليد الفقهاء عند كثير من الناس، مع أنهم يزعمون التحري وتتبع الأرجح؛ بينما لا يقعون إلا على الرخص والتساهل من أقوال الفقهاء؛ وهنا يظهر الفرق بين الباحث عن الحق، وبين الباحث عما يوافقُ هواه.
المراجع___
- «فتاوى ابن تيمية» (20/ 212).
- «صحيح البخاري» (6/ 2681).
- «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 922)
- «الإحكام» (5/ 64 – 70).
- «الموافقات» (5/ 92 – 97).
- «تلبيس إبليس» (ص 81)
- «نواسخ القرآن» (ص 831).
- «مجموع الفتاوى» (10/ 472.473)
- «التمهيد» (1/ 165).
- «جامع بيان العلم وفضله» (2/ 922).
- «أعلام الحديث» (3/ 209).
- التفسير والبيان لأحكام القران.