توافق هذه الأيام الذكرى السنوية 27 لمذبحة سربرنيتسا التي قتل فيها أكثر من 8 آلاف مسلم بوسني -منهم الشيوخ والنساء والأطفال- من قبل جيش صرب البوسنة، فيما اعتبر واحدة من أسوأ عمليات الإبادة الجماعية في القرن العشرين.
وفي هذا الاطار انطلقت الجمعة من بلدة نزوك شرقي البوسنة، “مسيرة السلام” السنوية الثامنة عشرة، لإحياء ذكرى مذبحة سربرنيتسا التي راح ضحيتها أكثر من 8 آلاف مدنيّ على يد القوات الصربية.
وتستمر المسيرة لمدة 3 أيام على طريق الغابة الذي يسمّيه سكان المنطقة “طريق الموت”، والذي سلكه المدنيون للنجاة من الإبادة الجماعية في 1995.
مذبحة سربرنيتسا أو الإبادة الجماعية في سربرنيتسا هي إبادة جماعية شهدتها البوسنة والهرسك في الفترة من 11 إلى 22 يوليو 1995 خلال الحرب التي دارت في البوسنة والهرسك،وتُعد أسوأ مذبحة شهدتها أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. حدثت المذبحة في مدينة سربرنيتسا وقُتل خلالها 8,372من المُسلمين البوشناق مُعظمُهم من الرجال والشيوخ والأطفال الذين تتراوح أعمارهم ما بين 12 و77 سنة.
في عام 1995م، وتحديدًا خلال الفترة ما بين الحادي عشر إلي الثاني والعشرين من يوليو، قامت القوات الصربية بأوامر مباشرة من أعضاء هيئة الأركان الرئيسية للجيش الصربي بالقيام بعمليات تطهير عرقي ممنهجة ضد المسلمين البوسنيين في سربرنيتشا، في واحدة من أسوأ المذابح الجماعية ضد المسلمين في التاريخ الحديث. لا تزال مذبحة سربرنيتسا جرحا ينزف في قلوب شعب البوسنة والهرسك بصفة عامة وقلوب ذوي ضحايا المذبحة خاصة، رغم مرور 27 عاما على وقوعها في بلدة سربرنيتسا شرقي البلاد.
وتوصف مذبحة سربرنيتسا بأنها أكبر مأساة إنسانية شهدتها أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.
بدأت المأساة عام 1992م، بعد أن قامت القوات الصربية بمحاولة السيطرة على مساحة شاسعة من الأراضي في شرق البوسنة والهرسك، بهدف ضمها إلى جمهوريتهم، وبالرغم من أن جمهورية البوسنة والهرسك قد أعلنت إستقلالها عن يوغسلافيا بعد الاستفتاء الذي أجري في فبراير من عام 1992، إلا أن الصرب لم يعترفوا بإستقلال البوسنة، وظلت لديهم مطامع في السيطرة عليها، إلا أن مسلمي البوسنة، والمعروفين باسم “البوشنياق”، عارضوا ضم إقليمهم إلى الصرب، فبدأت المناوشات بين الصرب والبوسنة، إلى أن أتى أبريل 1993م، حيث أعلنت الأمم المتحدة أن بلدة سربرنيتشا الواقعة في شمال شرق البوسنة “منطقة آمنة”، وأنها تحت حماية الكتيبة الهولندية في قوات الأمم المتحدة، وتحت وعود الحماية وضمان الأمن وسلامة الأرواح قام المتطوعون البوسنييون الذين كانوا يدافعون عن بلدتهم بتسليم أسلحتهم، لـكـن الصرب لم يهدأ لهم بالًا، ظلوا يخططون لضم تلك المنطقة إلى سيطرتهم، معتبرين أن حماية البوسنيين من قبل قوات الأمم المتحدة بمثابة انحياز إلى جوار المسلمين.
في الحادي عشر من يوليو 1995م، كانت المأساة الكبرى التي أدمت قلوب الإنسانية، عندما اجتاحت القوات الصربية بلدة سربرنيتشا، تحت قيادة الجنرال “راتكو ملاديتش” وبتحريض من الزعيم السياسي السابق لصرب البوسنة “رادوفان كراديتش”، مُحدثين واحدة من أفظع المجازر الجماعية التي شهدتها القارة الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية، فبعد دخول القوات الصربية إلى البلدة، قاموا بعزل الذكور بين 14 و 50 عاماً عن النساء والشيوخ والأطفال، ثم تمت تصفيتهم ودفنهم في مقابر جماعية، وبعد أن بدأ أمرهم في الافتضاح أمام المجتمع الدولي بدأوا في نبش هذه المقابر ونقل الرفات وتوزيعها على مقابر أصغر وفي أماكن متباعدة لإخفاء حجم المجزرة التي ارتكبوها، كما تم إبعاد أكثر من 20 الف مسلم بوسني من سربرنيتشا خلال يوم واحد فقط، وتمت عمليات اغتصاب ممنهجة وبشكل بشع ضد النساء والفتيات المسلمات، كل هذا حدث على مرأى ومسمع من الكتيبة الهولندية التابعة لقوات حفظ السلام الأممية، دون أن تقوم بأي شيء لإنقاذ أهل سربرنيتشا، وعلى مدار 11 يومًا فقط تم قتل أكثر من 8 آلاف شخص (طبقا لحصيلة الأمم المتحدة)، والمؤسف أكثر أن عناصر الكتيبة الهولندية كانوا يعيدون من يلجأ إليهم للإحتماء بهم إلى القوات الصربية مرة أخرى ليلقى حتفه.
حتى محاولة الهروب من جحيم الموت الصربي، إلى مدينة توزلا في شمال شرق البوسنة، لم تكن ممكنة، حيث تعرض 12 الف بوسني لإطلاق النيران من قِبَل قناصين صربيين، وكأنهم صيد يتم مطاردته، حيث نصب الصرب كمائن على الطرق الجبلية التي إتخذها البوسنيون للهرب، ولم يتمكن إلا 3 آلاف فقط منهم الوصول إلى مدينة توزلا، بينما قُتِلَ الباقون في غضون 10 أيام في الطريق الطويل من سربرنيتشا إلى توزلا، كانت هذه المجزرة أول وثيقة قانونية تثبت عمليات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في أوروبا، وتشكل مجزرة سربرنيتشا جزءًا من الحرب في البوسنة والهرسك التي استمرت لمدة ثلاث سنوات ونصف، قُتِلَ فيها حوالي 312 الف شخص، فيما اضطر 2 مليون شخص على مغادرة منازلهم، بينما إعتبر أكثر من 27 ألف شخص في عداد المفقودين حسب السجلات الرسمية، أما عمليات البحث عن المقابر الجماعية، فقد أسفرت بعد 17 عاما عن الوصول إلى حوالي 20 الف جثة، تم تحديد هوية 18 الف منهم، على الرغم من صعوبة تحديد الهويات، لأن معظمهم تم حرقه قبل إلقاءه في المقابر الجماعية.
وفي عام 2008، تم إيقاف “رادوفان كراديتش”، الذي عرف بـ “جزار البوسنة”، وهو أعلى مسؤول يمثل للمحاكمة بشأن مجازر البوسنة بعد وفاة الرئيس الصربي الأسبق “سلوبودان ميلوسوفيتش” أثناء محاكمته في 2006م، واعتبرت الهيئات القضائية الدولية أن المجزرة ترقى لمستوى الإبادة وذلك وفقا للقوانين الدولية، وفي عام 2016 حكمت محكمة الجزاء الدولية عليه بالسجن 40 عاما بتهمة الإبادة الجماعية. كما تم الحكم بالسجن المؤبد على قادة آخرين، بينهم الجنرال “راتكو ملاديتش”، وهو القائد السابق لجيش صرب البوسنة، والملقب بـ”سفاح البلقان”. أما في عام 2019م؛ فقد أيدت المحكمة العليا في هولندا، حكما سابقًا قضى بتحميل الدولة الهولندية جزءاً من المسؤولية عن مقتل مسلمي سربرنيتشا على أيدي قوات الصرب في عام 1995م، فالمحكمة رأت أن قوات حفظ السلام الهولندية كان يمكنها السماح للرجال المسلمين بالبقاء في قاعدة “الملاذ الآمن”، وأنها من خلال تسليمهم، قامت بتعريضهم لسوء المعاملة و الموت على أيدي القوات الصربية.
رغم مرور 27 عامًا على المأساة، إلا أن الألم لا يزال يعتصر قلوب مسلمي البوسنة، مع كل اكتشاف جديد لمقابر جماعية لمذابح الإبادة الصربية التي ارتُكبت بحقهم، فعدد الشهداء حتى ألان مازال في تزايد، قُتِلُوا بدمٍ بارد دون ذنب سوى أنهم مسلمون، وفي نهاية العام قبل الماضي 2017م، تم دفن 71 رفات جثة من ضحايا المجزرة، بعد أن عثر عليها في مقابر جماعية وتم تحديد الهويات، حيث تم دفنها في مقبرة بوتوكاري التذكارية، لقد أصبح إحياء ذكرى مذبحة سربرنيتشا تقليدًا سنويًا، يحرص مسلمو البوسنة عليه، ويحضره آلاف الأشخاص لاسيما أهالي الضحايا، ويتم في كل عام دفن عظام ضحايا جدد تم تحديد هوياتهم، أو اكتشاف رفاتهم، مما يدل على أن الجرح سيظل ينزف طـويـلًا، حتى مع إقدام الرئيس الصربي الحالي “توميشلاف نيكوليتش” على تقديم اعتذاره الشخصي عن المجزرة: “أركع وأطلب الصفح لصربيا على الجريمة التي ارتكبت”، فالأرواح البريئة التي أُزهِقَت عن عمد لن يعيدها ركوعك إلى الحياة ولو ركعت لألف عام!
في يوليو/تموز 1995، عندما سقطت المدينة الواقعة شرق البوسنة في أيدي القوات الصربية، فر قرابة 12 ألف رجل وفتى مسلم عبر الغابات بحثا عن مناطق آمنة، وخلال مطاردة لمدة 6 أيام، تم القبض على الآلاف منهم وجرى إعدامهم ميدانيا ثم دفنوا في مقابر جماعية.
وتستعرض الكتب التالية تلك المأساة من خلال شهادات الناجين وأعمال مؤرخين وأدباء.
أصوات من سربرنيتسا
كتاب “أصوات من سربرنيتسا: روايات الناجين من الإبادة الجماعية البوسنية” من تأليف آن بيتريلا وحسن حسنوفيتش هو أحدث الكتب التي تتناول المجزرة وشهادات الناجين، صدر في يوليو/تموز الجاري بالتزامن مع الذكرى 26 لهذه المذبحة المروعة.
يلخص الكتاب أقوال الناجين من إطلاق النار والجرائم الأخرى، وهم أيضا شهود يتمتعون بالحماية أمام محكمة لاهاي. وقالت المؤلفة المشاركة آن بيتريلا “اقترح حسن أن آتي من أميركا إلى البوسنة لبضعة أسابيع لأدرس. قررنا مقابلة الناس وتسجيل قصصهم وتسجيلها. هكذا جاءت فكرة هذا الكتاب، واستمرت العملية لأكثر من 5 سنوات” واعتبرت أن الكتاب شهادة على الإبادة الجماعية.
وقالت بيتريلا إنها ستواصل التحقيق في الإبادة الجماعية ضد البوسنيين في سربرنيتسا، وأضافت “المهم جدا أننا كتبنا الحقائق، خاصة وأننا نشهد يوميا إنكار الإبادة الجماعية”.
أكد حسنوفيتش -أمين متحف سربرنيتسا التذكاري- أنه بصفته أحد الناجين من الإبادة الجماعية، كان العمل على الكتاب “صعبا وعاطفيا وشاقا” لتسجيل شهادات الناجين من الإبادة الجماعية.
وأضاف لوكالة الأناضول “كان من الصعب للغاية العمل على الكتاب. كنت أرغب في العمل مع شخص لديه الإرادة والرغبة وهو صديق لهذا البلد. كان الأمر صعبا جدا في البداية، لأن قصتي موجودة في الكتاب أيضا. لقد أجريت مقابلات وترجمت وكتبت نصوصا”.
وأردف “كان من الصعب للغاية، على سبيل المثال، العمل على قصة نداد أفديتش. بطريقة ما صدمت لقصته، لأننا كنا في نفس العمر في ذلك الوقت. عملت أيضا في صربيا حيث قابلنا أشخاصا ونشطاء في مجال حقوق الإنسان، وعضو البرلمان الصربي في ذلك الوقت ساركو كوراتش”.
وقال حسنوفيتش إن الكتاب عمل بحثي علمي، ونُشر في أميركا باللغة الإنجليزية، مؤكدا حصول الرئيس الأميركي جو بايدن على نسخة منه، وختم قائلا “أتمنى أن يُترجم الكتاب إلى البوسنية وأن يُنشر في بلادنا”.
لقاء مع مجرم حرب
كتبت جنين دي جيوفاني -وهي زميل أقدم بمعهد جاكسون في جامعة ييل الأميركية- أنها غطت حرب البوسنة منتصف التسعينيات وأنها تعي ما رأت، حيث سافرت إلى سراييفو المحاصرة ومناطق “التطهير العرقي” وإلى وسط البوسنة حيث قابلت ضحايا معسكرات الاغتصاب وحملات القصف والأمهات اللائي قتل أطفالهن وهم يبنون دمى “رجل الثلج” وأقارب الشيوخ الذين قتلهم القناصون وهم يقطعون الخشب للتدفئة من زمهرير البلقان.
وتقول الباحثة -في مقالها بصحيفة واشنطن بوست- إن هذه الأحداث تركت في نفسها آثارا مؤلمة بالكاد تستطيع تحملها، جزء كبير منها محاط بالذنب حيث عاشت وزملاؤها مع السكان المحليين وحاولوا جاهدين المحافظة على روايتهم المأساوية في أعين الناس. واعتبرت كل قذيفة سقطت وكل جثة محفوظة في برودة المشرحة، حيث كانت تسير كل صباح لإحصاء القتلى، فشلا شخصيا لحرب كان من الممكن وقفها مبكرا.
والآن، بعد ربع قرن، تجد الباحثة نفسها في مواجهة اتجاه مقلق يعيد فيه الباحثون والصحفيون ولجان الجوائز إعادة كتابة تاريخ الفظائع التي عايشتها وكثيرون غيرها. ومن بين هؤلاء مؤلفة أميركية تدعى جيسيكا ستيرن نشرت كتابا مبنيا على مقابلاتها مع زعيم صرب البوسنة السابق رادوفان كاراديتش الذي حكم عليه بالسجن مدى الحياة لدوره في الإبادة الجماعية.
وأشارت جيوفاني إلى أن ستيرن اختارت تسمية كتابها “مجرمي الحرب: لقاءات شخصية مع مهندس إبادة جماعية” (My War Criminal: Personal Encounters with an Architect of Genocide) ويشتمل على “لقاءات حصرية مع مجرم الحرب كاراديتش مهندس الإبادة الجماعية بالبوسنة”.
وذكرت أن ستيرن ذهبت إلى زنزانته، وسمحت له بممارسة تعويذة دينية علاجية عليها، وبلمسها، واستسلمت لنوبة التنويم المغناطيسي التي مارسها عليها، واصفة إياه بأنه “طويل ووسيم وله شعر أحمر غزير وقوام بايروني”.
وتقول جيوفاني “يبدو أن ستيرن أرادت فهم عقلية شخص يمكنه التحريض على جرائم لا يمكن تصورها. ومع ذلك اختارت أن تنسى الضحايا الذين ينبغي أن يكونوا في صلب القصة. وعلقت بأنها في محاولتها لإضفاء طابع إنساني على قاتل للآلاف، تكون ستيرن قد ارتكبت ظلما كبيرا لبلد ما زال ينزف حتى اليوم. ووصفت هذا النهج بالتهاون واعتبرته إحدى الطرق لتشويه الماضي وطريقة أخرى للإنكار الصريح”.
وضربت الباحثة مثالا آخر لتشويه التاريخ، ومحاولة إعادة كتابته، في إشارة إلى منح لجنة أوسلو عام 2019 جائزة نوبل للأديب النمساوي بيتر هاندكه المعروف جيدا بجهوده في إنكار الإبادة الجماعية بالبوسنة وتشكيكه في حقيقة مذبحة سربرنيتسا في يوليو/تموز 1995 عندما قتل صرب البوسنة 8 آلاف رجل وطفل مسلم وكدست جثثهم في مقابر جماعية.
وأفاضت في سرد قصص الأهالي الذين قابلتهم وتحدثوا عن المآسي التي عايشوها عيانا بيانا، وتمنت لو أن هاندكه قابل الأشخاص الذين قابلتهم، وتساءلت عما إذا كان سيظل يقدم مثل هذه الادعاءات “لكنه على ما يبدو لم يبذل أي جهد لاختبار وجهات نظره ضد شهادة الناجين، ويعيش مثل المؤلفة ستيرن في واقع صنعه لنفسه”.
قصة حصار وحب
يؤرخ البوسني أدين كريهيتش في روايته “سراييفو قصة حصار وحب” يوميات الحرب التي شهدتها البوسنة والهرسك مطلع التسعينيات من القرن المنصرم. يكتب روايته كمن يدوّن مذكرات المحاصرين والمقاتلين والشهداء بتفاصيلها، وكأنه بصدد التحضير لسيناريو فيلم عن تلك الحرب المأساوية.
لا يخلو سرد كريهيتش في روايته -التي ترجمها عبد الرحيم ياقدي- من تشويق درامي، رغم الأسى المتخلل معظم الفصول والمقاطع، إذ يبدأ من نهاية الحرب، حيث يلتقي بطل الرواية ياسمين بحبيبته ليلى. ويسرد جانبا من أحلام الوصال ومعاناة السنين الماضية، ثم يوقف المشهد قبل إتمام اللقاء، ويرجع بالسرد إلى الوراء ليحكي وقائع الحصار والحرب.
نيران الحب والحرب
يصف كريهيتش -الذي عمل إعلاميا بقناة الجزيرة- شراسة الحصار وضراوة القصف العشوائي وتخبطه، وكيف هرب الناس في المدينة من القنابل والقناصين والجوع والبرد، ثم كيف باع منتفعو الحرب ما تبقى من الأشياء الثمينة من البيوت بأسعار زهيدة، وكان المسعى الدؤوب لرشوة الجنود الذين كانوا يؤمِنون النفق تحت مدرج المطار للخروج من المدينة.
ويشير إلى عادات جديدة تجتاح حياة الناس أثناء الحرب والحصار، وفي ظل فقدان الأمان، إذ يصبح الموت عادة، مما يجعل الحياة اليومية صلبة كالحجر، وفي أي لحظة يكون المرء مرشحا ليكون القتيل التالي، بحسب تقرير سبق نشره بالجزيرة نت للكاتب هيثم حسين.
ويسود يقين واقعي أن القذائف ستسقط، لكن السؤال: هل ستكون أنت في مكان يجب ألا تكون فيه في تلك اللحظة، حيث لا توجد قواعد للعبة. الكل يُقتلون. ويذكر أن الموت لاقى الكثيرين وهم نيام حيث ينعتون تاليا بالمحظوظين، إنهم لم يتعذّبوا في موتهم.
البلقان والشرق
يعتبر كتاب “البلقان من الشرق إلى الاستشراق” مقاربة حية لواقع الدول البلقانية التي عاشت سحر الشرق خلال الحكم العثماني، ثم انتقلت إلى سيطرة قوى أخرى، لتشعر بحاجتها إلى إعادة اكتشاف هذا الشرق، سواء كمكون لحضارتها أو عنصر غريب عنها.
ويعتبر محمد الأرناؤوط في مقدمة الكتاب -الصادر عن منتدى العلاقات العربية والدولية بالدوحة عام 2014- أن الإمبراطورية الرومانية بشقها الشرقي كانت المحدد الأساسي لتاريخ وحضارة البلقان، في حين شكلت الدولة العثمانية المحدد الثاني.
ويتحدث عن نهايات الوجود العثماني في البلقان، حيث جرى تداول عدة مشروعات، مثل فدرالية بلقانية للتخلص من الحكم العثماني والوجود الإسلامي هناك، على اعتبار أن مسلمي البلقان كانوا جزءا من التركة العثمانية فيها.
ثم يشير الكاتب إلى ازدهار بلغراد في ظل الحكم العثماني كمدينة شرقية المعالم والثقافة شبيهة بدمشق، مع مئات المساجد والمدارس والحمامات والمكتبات، وكيف أخذ مسلموها لقب “أتراك” على أساس أنهم يعتنقون دين الأتراك، وهو ما تم استخدامه لاحقا للتخلص منهم.
عهد جديد
وعن البوسنة، يذكر الأرناؤوط أن معظم سكانها اعتنقوا الإسلام خلال قرن واحد من قيام القائد محمد الفاتح بفتحها بالكامل عام 1436، وذلك خلافا لسائر الأقاليم العثمانية، ثم عرفت ازدهارا ذا طابع شرقي، واكتسب المسلمون فيها لقب “حرس الحدود” كونهم أقصى امتداد للدولة العثمانية في الغرب.
ولم تمر الإصلاحات العثمانية بسهولة في البوسنة حيث رأى فيها البعض تشبها بأوروبا، وأدت محاولة إجبارهم على قبولها إلى مقتل ونفي الآلاف منهم، ثم تم الأمر بمحاولات من شيوخ دين وعلماء ليبدأ عهد جديد مع مدارس وإدارات حديثة ومطابع وصلت البوسنة بأوروبا، غير أن هذه التطورات لم تؤد إلى المطلوب نتيجة الدعاية القومية الصربية والكرواتية.
ومع اتفاقية برلين عام 1878 انتقلت البوسنة عمليا إلى الإدارة النمساوية التي أخمدت مقاومة المسلمين لحكمها، لتصبح صلات هؤلاء بالشرق روحية فقط، ثم تبدأ هجرتهم باتجاه المناطق الخاضعة للعثمانيين، مما دفع النمسا إلى التقرب منهم لإصلاح صورتها، خاصة أنها كانت تطمع في التوسع جنوبا حتى سالونيك، وبدأت العمل بالولاية المزدوجة، والتي تقضي بنقل الحضارة الأوروبية إلى المستعمرات مقابل استثمار مواردها الطبيعية بالتوازي مع مساع ناعمة لفصل المسلمين عن الدولة العثمانية.
ومع انهيار إمبراطورية هابسبورغ وضم البوسنة إلى مملكة الصرب، عاش المسلمون ظروفا قاسية محاولين الحفاظ على وجودهم وهويتهم، بحسب عرض قدمه شادي الأيوبي للجزيرة نت.
كما ارتبطت السيطرة العثمانية على ألبانيا بنهضة عمرانية شرقية الملامح وثيقة الروابط بازدهار الأوقاف، وانخراط الألبان في الهرمية الإدارية والعسكرية في الدولة، لكن الملك أحمد زوغو (1922-1939) ثم أنور خوجة غيرا تلك الملامح.
وفي 11 يوليو/تموز 1995، لجأ مدنيون بوسنيون من بلدة سربرنيتسا إلى حماية الجنود الهولنديين، بعدما احتلت القوات الصربية البلدة، غير أن تلك القوات أعادت تسليمهم لنظيرتها الصربية.
ودفن الصربُ البوسنيين في مقابر جماعية، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها أطلقت البوسنة أعمال البحث عن المفقودين وانتشال جثث القتلى من المقابر وتحديد هوياتهم.
ودأبت السلطات البوسنية في 11 يوليو/تموز من كل عام على إعادة دفن مجموعة من الضحايا الذين توصلت إلى هوياتهم، في مقبرة “بوتوتشاري”.