لا يخفى على عاقلٍ أنَّ أصل أيّ فكرةٍ له أثره العميق على مخرجات هذه الفكرة أيّاً كانت، ومن ذلك ما نحن بصدده في هذا المقال من أصل فكرة حركة “الأقيال”، حيث تقوم هذه الفكرة في أصل نشأتها على أساسين اثنين، هما من أمر الجاهلية الباقي في كثيرٍ من أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، كما قال صلوات ربي وسلامه عليه: (أربعٌ في أمتي من أمر الجاهلية، لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب …) وذكر تتمة الحديث، خرَّجه مسلم.
فالأساس الأول: العصبية للأنساب اليمانية، والافتخار والتعصب للقومية اليمنية.
والأساس الثاني: التنقص والتذمر والطعن على الهاشمية وآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، بنفي ما لهم من فضائل ومحو شرف هذا النسب.
فكانت هذه الفكرة فكرةً في أصل نشأتها عصبيةً جاهليةً، فما الذي يُنتظر منها؟! والله تعالى يقول: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً}، ويقال في الأمثال: تلك العصا مِن تلكمُ العُصَيَّة، ولا تلد الحية إلا حُييَّة.
ولذا كانت ثمار تلك الفكرة في أدناها سوءاً بدعةٌ وضلالةٌ ناصبية، وأشدها انحرافاً كفرٌ وزندقةٌ عبهلية، وما بينهما رتبٌ متفاوتٌ من الضلالة والزيغ والانحراف، والشيء من معدنه لا يُستَغرَبُ.
ودعوني من طائفةٍ من الضالين ممن يناصر أمثال هذه الدعوات الجاهلية ممن انتسب لعلوم الشريعة أو اعتزي للدعوة الإسلامية فما هم إلا قومٌ ارتضوا لأنفسهم أنْ يلتفوا حول رايةٍ عمِيِّةٍ جاهليةٍ، يغضبون لعصبيةٍ، ويدعون إلى عصبيةٍ، وينصرون عصبيةً، كما قال صلوات ربي وسلامه عليه.
وحسبنا في زجرهم عما هم فيه من غوايةٍ ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من أنَّ رجلاً من المهاجرين كسع رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما بال دعوى الجاهلية»، فقالوا: يا رسول الله، كسع رجلٌ من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال: «دعوها فإنَّها منتنةٌ».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فهذان الاسمان: المهاجرون والأنصار، اسمان شرعيان، جاء بهما الكتاب والسنَّة، وسماهما الله بهما كما سمانا المسلمين من قبل وفي هذا، وانتساب الرجل إلى المهاجرين أو الأنصار انتسابٌ حسنٌ محمودٌ عند الله وعند رسوله، ليس من المباح الذي يقصد به التعريف فقط، كالانتساب إلى القبائل والأمصار، ولا من المكروه أو المحرم، كالانتساب إلى ما يفضي إلى بدعة أو معصية أخرى.
ثم مع هذا لما دعا كلٌّ منهما طائفته منتصراً بها أنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وسماها دعوى الجاهلية، حتى قيل له: إنَّ الداعي بها إنَّما هما غلامان لم يصدر ذلك من الجماعة، فأمر بمنع الظالم، وإعانة المظلوم، ليبين النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ المحذور إنَّما هو تعصب الرجل لطائفته مطلقاً فعل أهل الجاهلية، فأما نصرها بالحق من غير عدوان فحسنٌ واجبٌ أو مستحب). [اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 241)].
فإنْ قال قائلٌ: فما بال القوم قد زاغوا حتى سقطوا في هذه الهاوية؟!
فنقول: لما ضلَّ القوم عن ميزان الإسلام = الحقّ والعدل والوسط، انحرفت عندهم البوصلة وسقطوا في تلك الهاوية، فأمَّا من التزم ميزان الإسلام فلن يميل لا إلى الغلو والإفراط ولا إلى الجفاء والتفريط، ومعيار ذلك: الالتزام بدلائل الوحي = كتاباً وسنَّة على فهم السلف الصالح، وعلى رأسهم الرعيل الأول = الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، ومن تبعهم بإحسان ممن اقتدى بهديهم وسار على نهجهم.