بدا الاعلان عن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي في اليمن، خلال أبريل/نيسان الماضي، بمثابة “توافق سياسي”، قد يقود البلاد نحو الاستقرار، أو على الأقل هكذا خُيّل الأمر لدى كثيرين.
حينها، بلغ التفاؤل والامل عنان السماء، وتمنى اليمنيون أن تسعى القوى التي تكون منها المجلس الرئاسي إلى تحقيق والعدالة وإسناد المهام إلى القادرين على الإنجاز، بعد سنوات من العجز سياسيا وعسكرية واقتصاديا.
لم ينفك التفاؤل عن توقعات الكثيرين، ولم يغادر الأمل توقعات وتخمينات المراقبين والمتابعين، رغم أن البعض شكك في أن تؤدي المكونات التي تشكل منها المجلس المهام الموكلة إليها بأريحية وسلاسة.
وعلل هؤلاء شكوكهم بالتناقض الذي قام عليه واستند إليه المجلس الرئاسي من خلال مكوناته السياسية ذات الغايات المتضاربة والأهداف المتعارضة مع بعضها البعض، فهناك الوحدوي والانفصالي، والسلفي واليساري، والعسكري والمدني، ولكلٍ مشروعه وغايته.
بالإضافة إلى المخاوف من أن يقوم كل ممثل من ممثلي الأطراف والقوى المُكونة للمجلس بخدمة قواه وتياره السياسي على حساب القوى والأطراف الأخرى، وذلك من خلال التعيينات التي يمكن أن يصدرها هذا القيادي أو ذاك، في مواقع ومناصب حساسة ومهمة.
وفي حقيقة الأمر، فإن مثل تلك المخاوف والتشكيك ما زال قائما -بكل أسف- خاصةً في ظل صراع “التعيينات”، وسعي كل طرف لخدمة رجالاته من أنصاره والمنتمين لفريقه؛ بهدف تمكينهم والاستحواذ على مفاصل الدولة.
صراع المناصب
منذ الوهلة الأولى لتشكيل المجلس الرئاسي اليمني المكون من ثمانية قيادات تمثل تيارات وأطراف سياسية يمنية متعددة وحاضرة على الأرض، ومؤثرة أيضا شعبيا، وهذا المجلس يحمل أسباب الصراعات في داخله.
لكن تفادي مثل هذه الصراع كان معولا على القيادات الأساسية التي تشكل منها المجلس، باعتبارهم أكبر من أن تؤثر عليهم مصالحهم الشخصية أو مصالح قواهم وتياراتهم، على حساب البلاد وعامة المواطنين.
غير أن هذا التعويل على بعض القيادات لم يتحقق فعليا، وشاهد الجميع قرارات مناطقية في أكثر من مؤسسة محلية، حتى في المرافق السيادية، أثارت جدلا شعبيا وإعلاميا وسياسيا كبيرا.
كل ذلك الجدل المثار سواء في عدن أو في بقية المحافظات اليمنية المحررة، ساهم في إشعار “سباق التعيينات” بين القوى المكونة المجلس الرئاسي؛ للفوز بأكبر قد ممكن من المناصب، على حساب خدمة الناس والدولة.
هذا الصراع، يُرجعه مراقبون إلى البنية الأساسية للمجلس الرئاسي المكون من ثمانية قيادات تمثل القوى السياسية في البلاد، وبالتالي من الطبيعي أن ينعكس هذا التعدد على الواقع الخدمي والتنفيذي في عملية التعيينات.
بحيث يسعى كل قيادي لتوفير وضع أفضل ومريح لحزبه أو تياره أو القوى التي ينتمي إليها، غير أن الأمر لا يقف في مجال صراع المناصب عند مستوى خدمة الطرف السياسي، لكنه تطور حتى اتخذ أبعادا مناطقية وقروية، وهو ما يؤدي إلى كوارث أسوأ.
شرذمة الدولة
يعتقد مراقبون أن التعيينات المناطقية أسوأ بكثير من التعيينات التي تسعى لخدمة حزب أو تيار ما، وإن كان كلاهما يحملان الكثير من السوء، الذي انعكس تداعياته السلبية على واقع ومستقبل الخدمات والبلاد برمتها.
فالتعيينات القائمة على المحاباة والانتماء للحزب أو الكيان السياسي أو المناطقية والقروية المقيتة، لا تقوم بكل تأكيد على الكفاءة أو الاستحقاق، ولكنها تُقدّم الولاء الحزبي والانتماء القروي على حساب القدرات.
وهذا الواقع لا يهتم بتواجد وتعيين أشخاص بلا كفاءة في مناصب خدمية وتنفيذية، ويغض الطرف عن النتائج المرجوة من خدمة الناس، بقدر ما يعتني بخدمة الكيان السياسي فقط لا غير.
ونتيجة هذا الانحراف في العمل المؤسسة وغايات الوظيفة العامة، هو “شرذمة الدولة”، وانتفاء أهدافها المتمثلة في خدمة الناس والمواطنين وتوفير احتياجاتهم، بسبب بسيط يكمن في “إسناد الأمر إلى غير أهله”.
وهو ما يؤدي إلى فقدان الثقة بالدولة، نتيجة توغل الأحزاب والقوى السياسية وتماهيها في عملية خدمة مصالحها الشخصية والحزبية، على حساب مصالح المواطنين.
حيث توزعت مهام الدولة ومرافقها ومؤسساتها بين القيادات الممثلة للكيانات السياسية، وتفرقت مسئولياتها بين القوى التي تقاسمت البلاد، حتى جغرافيا، ما يؤكد بالفعل مفهوم “شرذمة الدولة” ويرسخه عمليا على الواقع، دون أي مبالغة.
كانتونات وجزر منفصلة
يرى محللون أن المشهد السياسي في اليمن عموما بات منقسما على نفسه، وأضحت البلاد عبارة عن جزر منفصلة، تحكمها أطراف متصارعة، يحمل كل منها مشروعا متباينا مع مشاريع الآخرين.
فقبل تشكيل المجلس الرئاسي اليمني، كان الحوثيون الانقلابيون ينفردون بحكم المحافظات الشمالية ويفرضون سيطرتهم عليها، بينما قُسمت بقية مناطق البلاد، بين القوى السياسية والعسكرية الأخرى المتواجدة في محافظات مختلفة.
فالحكومة اليمنية الشرعية كانت تتواجد في شبوة ومأرب والمهرة، ومناطق عسكرية في حضرموت، وأجزاء غربية من أبين، ومناطق في تعز، بينما يسيطر المجلس الانتقالي الجنوبي عسكريا على عدن ولحج والضالع وسقطرى، وأجزاء شرقية من أبين.
فيما تمكنت قوات عسكرية وكيانات سياسية، كألوية العمالقة والقوات المشتركة في السيطرة على غرب البلاد، وتحديدا في الساحل الغربي، وجنوب الحديدة، وبعض مناطق غرب وجنوب تعز.
هذه “الكانتونات” والجزر المنفصلة عن بعضها البعض، تجسدت في شكل المجلس الرئاسي اليمني، الذي عكس هذا التشرذم المناطقي قبل أن يكون تشرذما سياسيا، ما يجعل البلاد برمتها مهددة بالبقاء في مثل هذا الوضع لسنوات قادمة.
وما يجعل هذا الواقع مرشحا للاستمرار في المستقبل القريب على الأقل، أن كل منطقة تتحكم بها قوى عسكرية أو سياسية معينة، يمثلها قيادي في المجلس الرئاسي، يُعيّن فيها يشاء ومن يتوافق مع توجه أو ينتمي لحزبه وربما حتى لمنطقته ومسقط رأسه!.
ويبدو الأمر مدروسا بحسب مراقبين، حيث يرى البعض أن هذا الشكل الذي تقوم عليه اليمن اليوم هو ما يريده اللاعبون الإقليميون والدوليون للبلاد، بينما يعتقد آخرون أن هذا الشكل من الحكم مؤقت، وهو الوسيلة آنية للسيطرة على مناطق اليمن المترامية.
لكن في كلا الحالتين، تعمل القيادات في ظل ضغوط من منتسبيها وأنصارها على فرض رجالاتها بحسب ولاءاتهم، وخدمة قواهم السياسية وأحزابهم على حساب خدمة اليمن واليمنيين.
تجاوز المشكلة
لا محالة في أن هذا الوضع سيؤدي إلى إحداث مشكلات في العمل السياسي، وعلى حساب الولاء الوطني والاستقرار العام للبلاد.
فالمحاصصة لا يمكن لها أن تشكل أو تحقق استقرار، بل إنها بؤرة للصراعات المتتالية بين القوى السياسية، خاصة إذا تم تغليب المصلحة الحزبية والشخصية على حساب المصلحة العامة.
وهذا ما يفرض على المجلس الرئاسي اليمني تدارك الأمر، والتنبيه لمعضلة خطيرة كهذه، ووضع معالجات للمشكلة حتى يتسنى تجاوزها وعدم تفاقمها، خاصة وأن المواطنين ما زالوا يعولون على المجلس الرئاسي وقياداته أحداث تغيير في الأوضاع المعيشية والسياسية والعسكرية.
ويمكن للمجلس الرئاسي أن يحقق هذا الهدف، في التنبه والمعالجة، من خلال تحويله المحن إلى منح، وتغيير وضع المشكلة إلى فرصة، فالتعدد قد لا يكون معضلة بالضرورة، فقد يتحول إلى تنوع مفيد يخدم البلاد والمواطنين.
وإذا كانت هناك مخاطر في عملية التعيينات تكمن في مهددات التشظي وانفراد كل تيار سياسي أو حزب أو مكون ما بمناصب وتعيينات تخصه وتخص الموالين له، فإن الوضع هذا يمكن أن يُنظر إليه بنظرة أخرى.
وذلك من خلال منع حصول تداعيات الانفراد بالتعيينات، وتقييد إصدارها على شخص رئيس المجلس الرئاسي وحده، والحد من صلاحيات نواب رئيس المجلس؛ حفاظا على المصلحة العامة، وحفاظا على هيكلة الدولة وبنيتها المؤسسية.
فكرة التقييد هذه، قد لا تكون مطلقة، ولكنها قد تقوم على مبدأ التنسيق بين شخص رئيس المجلس الرئاسي ونوابه، منعا للانفراد بالتعيينات، وبما يضمن توازنا يمنح المناصب لمستحقيها وللكفاءات والقدرات المؤهلة، تؤسس لتسلسل هرمي وبنيان هيكلي لقوام الوظائف والتعيينات.
وهو دور مناط بقيادة المجلس الرئاسي، التي يجب عليها التنبه لهذه المشكلة، وتنسيق عملية التعيينات بشكل سلس وواضح، بعيدا عن الحزبية والمناطقية.
بحسب “عدن الغد”.