لا يزال منكرو السُّنَّة يبحثون عن كل عبارة نُقلت عن عصر صدر الإسلام الأول ليتصيدوا منها الشبهات، باعتباره العصر المؤسس لقيام الأمة الإسلامية العظيمة، وعلى طريقتهم في استنطاق النصوص بما لا تحتمل فإن منكري السُّنَّة يدَّعون تشدد الخلفاء في منع رواية السُنة، ويؤكدون أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ما كانوا يقبلون الحديث إذا سمعاه من راو واحد، حتى يؤيده راو ثان سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلما سمع الراوي الأول، وهذه الظاهرة كانت كثيرة الوقوع في عصر الخلفاء، ونحن نقر بها ولا نرفضها، ولكنا لا نفهم منها فهماً معوجاً كما يفهم أو يدعي منكرو السُّنَّة، وقد ذكرنا من قبل مثالين لهذا التشدد، واحداً بكرياً والثاني عُمرياً، ولدينا مزيد عنهما وعن غيرهما، وإننا لسعداء بهذه الروايات كما سيأتي.
منكرو السُّنَّة يرون في هذا التشدد منقصة للسُّنَّة، ويقولون لو كانت السُّنَّة من الدين لما وقف في طريقها الخلفاء الراشدون؟! ثم يضيفون واقعة تساند هذا التشدد، وهي ما روي عن عمر بن الخطاب أنه استشار الصحابة حين أراد أن يجمع السُّنَّة في صحف خاصة بها، فوافقه الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ولكن عمر رضي الله عنه ظل يستخير الله شهراً كاملاً في كتابة السُّنَّة ولم يسترح لهذا الأمر فانصرف عنه.
منكرو السُّنَّة يوظفون هذه الواقعة – إذا صحت – للحكم على السُّنَّة بأنها ليست من الدين، ثم يذكرون أن علياً رضي الله عنه لم يكن يقبل الحديث من راو واحد، حتى يستحلفه بالله أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يدَّعون أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يحبس المكثرين من رواية الحديث، فحبس ابن مسعود، وأبا الدرداء، وأبا ذر رضي الله عنهم أجمعين.
مناقشة هذه الشبهة وإبطالها:
نبدأ بما بدؤوا به، وهو رد الحديث من الراوي الواحد حتى يشهد معه راو ثان.
إن هذه القاعدة لم تكن هي الوحيدة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه في هذا المجال، ولم تحدث منه إلا مرة واحدة حينما سأل عن ميراث الجدة راوياً ثانياً ليؤكد الرواية الأولى، وأبو بكر رضي الله عنه فقيه قاض، والشهادة في الحقوق المالية أو المدنية تكون بشاهدين عدلين لا بشاهد واحد، فربما كان الحامل لأبي بكر في مسألة ميراث الجدة على طلب راوٍ ثان يؤيد ما شهد به الراوي الأول، هو إكمال الشهادة ليكون الحكم صحيحاً غير مشوب بخطأ أو قصور في إجراءات التقاضي.
ويقوي هذا الرأي قبول أبي بكر الحديث من راو واحد في غير مسألة “الجدة” هذه(1).
أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه، مع تكرار التوثق منه بالراوي الثاني مرات، فإنه جمع بين هذه القاعدة وبين قبول الحديث من راو واحد، والعمل به، وكذلك الإمام على بن أبي طالب رضي الله عنه، فمع ما عُرف عنه من استحلاف الراوي الواحد إذا لم يكن معه ثان، فإنه عُرف عنه –كذلك– قبول الحديث من راو واحد دون أن يستحلفه.
فقد نقل الرازي أنه قبل رواية المقداد بن الأسود في حكم “المذي” دون تحليف، وأياً كان الأمر فإن تشدد الخلفاء في قبول الحديث وروايته كان نبراساً لمن بعدهم، حين نشطت الأمة في عصر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في جمع السُّنَّة وتدوينها. وهذا أمر كان ينبغي أن يبث الطمأنينة في القلوب، ويُسعد النفوس المؤمنة؛ لحرص الأمة على حفظ سُنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنها لم تُجمع جمعاً عشوائياً، بل أُحيطت بكل عناية ودراية بدءاً من عصر الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم.
إن تشدد الخلفاء الراشدين نتج عنه تشدد علماء الحديث من بعدهم، وكانت نتيجة هذا التشدد هي تنقية السُّنَّة النبوية من الدخيل والعليل وهذه مَحْمَدة يُسجلها التاريخ.
كان الأولى بمنكري السُّنَّة أن يحترموا أنفسهم فلا يرون الأبيض حالك الظلام، فهل كان يسعدهم لو تساهل الخلفاء في رواية الحديث؟، ولو كان الخلفاء قد تساهلوا في رواية السُّنَّة، لكان هذا التساهل مدعاة لتساهل من جاء بعدهم، ولنُزعت الثقة عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
استخارة عمر:
أما ما ذكره هؤلاء عن استخارة عمر رضي الله عنه شهراً في كتابه السُّنَّة، فلم يأذن الله له، فهذه المسألة الخطب فيها يسير، إن كان فيها خطب، بل هي – في الواقع – حجة على منكري السُّنَّة، وليست حجة لهم، لو كانوا يعقلون!
فأولاً: فقد ظهر ما كان مكنوناً في علم الله وقت استخارة عمر رضي الله عنه في كتابة السُّنَّة، ثم انصرافه عنها لما لم يشرح الله صدره لكتابتها.
ظهر ما كان مكنوناً في علم الله وقتئذ، فقد قدَّر الله تعالى لحكمة هو يعلمها أن ميقات جمع السُّنَّة وكتابتها هو عصر عمر الثاني لا عمر الأول: عمر بن عبد العزيز لا عمر بن الخطاب.
ولو كان الله تعالى قدَّر جمعها وكتابتها في عصر عمر الأول (النصف الأول من القرن الهجري الأول) لشرح صدر ابن الخطاب لجمعها وكتابتها وتدوينها.
ولإن كان عمر قد انصرف عن كتابتها فهو ما انصرف عن تعظيمها والعمل بها مع كتاب الله في الفتيا والقضاء، فقد كان الشيخان (أبو بكر وعمر) رضي الله عنهما، يحتكمان إلى كتاب الله في كل شئون الدولة والأفراد فإن وجدا في كتاب الله قضاء أخذا به، ولم يعدلا عنه إلى سواه، وإن لم يجدا في كتاب الله بغيتهما طلباها في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ظفرا بها أسرعا إلى إنفاذها ولم يعدلا عنها إلى سواها.
هذا هو المحفوظ بالتواتر من سيرة الشيخين رضي الله عنهما، ومن ادعى غير ذلك فليس معه دليل يستند إليه.
فالأمر سواء عندنا كتب عمر رضي الله عنه السُّنَّة أو لم يكتبها فإن السُّنَّة عند عمر رضي الله عنه هي روح القرآن ومفتاحه الذي لا غنى عنه بحال.
وثانياً: إن هذه الواقعة لو تدبرها هؤلاء لعلموا أنها سلاح ضدهم، قد أصابهم في مقتل لو كانوا يشعرون، فالواقعة تؤكد أن عمر رضي الله عنه استشار الصحابة في كتابة السُّنَّة فوافقوه، أفلا تدل هذه العبارة على إجماع الصحابة رضي الله عنهم على جواز كتابة السُّنَّة، وأن عمر رضي الله عنه كان أول من فكَّر في موضوع هذا الإجماع لولا ما كان من أمر الاستخارة.
ونحن أمام حقيقة يجب الإعلان عنها والانتصار لها:
هذه الحقيقة هي أن الصحابة أجمعوا على كتابة السُّنَّة إلا أن عمر رضي الله عنه حرص على صلاة الاستخارة، وانصراف عمر عن كتابة السُّنَّة لا يؤثر في قوة إجماع من سواه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه موقف فردى بحت أمام إجماع جماعي، وإجماع الصحابة حجة لا تنكر.
ورأي عمر رضي الله عنه مجرد رأى فردى خاص به، ولن يرد رأى الفرد رأى الجماعة، وعلماء الأصول مجمعون على أن قول الصحابي لا يُلزم غيره بالانصياع له، ولن يتعدى أثره صاحبه القائل به إلا إذا ووفق عليه من غيره.
ولم يرد أن الصحابة غيروا موقفهم من جواز كتابة السُّنَّة بعد انصراف عمر رضي الله عنه عن كتابتها، فبقي الإجماع على جواز كتابتها، وانفراد عمر بالرأي الذي ارتآه، فماذا يقول منكرو السُّنَّة إذن؟!
وقد التزم الصحابة منهاج عمر رضي الله عنه وأتقنوا أداء الحديث، وضبطوا حروفه ومعناه، وكانوا يخشون أن يقعوا في الخطأ؛ لذلك نرى بعضهم لا يكثر من الرواية في ذلك العهد، حتى إن منهم من كان لا يحدث إلا بالحديث والحديثين، ونرى من تأخذه الرعدة، ويقشعر جلده ويتغير لونه ورعاً واحتراماً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ذلك ما روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: “إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثاً كثيراً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من تعمد عليَّ كذباً فليتبوأ مقعده من النار”(2).
ونسألهم: لماذا قبلتم هذه الرواية عن عمر رضي الله عنه، وفي الوقت نفسه تدَّعون أن السُّنَّة النبوية مزورة وأنتم تعلمون أن نسبة هذه الواقعة إلى عمر، ولم تحظ بما حظيت به السُّنَّة من عناية الرواة، والتدقيق في صحة روايتها؟ (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)؟!
أما رواية حبس عمر رضي الله عنه للصحابة الذين أكثروا من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي رواية يرفضها العقل ولم تصح في النقل، وأغلب الظن أن عمر رضي الله عنه إنما نهى عن الحديث بالإخبار عمن سلف من الأمم، وما أشبه ذلك، وأما النهي عن الحديث بالسُنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا ما لا يحل لمسلم أن يظنه بمن دون عمر من عامة المسلمين، فكيف بعمر رضي الله عنه؟!
وكيف يُظن بعمر أنه قد نهى عن الإكثار من الرواية إنكارا للسُنة النبوية، وهو المعظم والموقر لسنة النبي صلى الله عليه وسلم الحاكم بها في كل شئون حياته، وشئون رعيته (3)؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الإحكام في أصول الأحكام – المؤلف: علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي أبو محمد – الناشر: دار الآفاق الجديدة – سنة النشر: 1403 – 1983 – (1/ 141).
(2) صحيح البخاري (بشرح فتح الباري) كتاب: العلم – باب: إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، (1/ 241) رقم (106) – صحيح مسلم (بشرح النووي)، باب: تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، (1/ 169).
(3) أصل هذه الشبهات من كتاب: “هذا بيان للناس – الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية” – د. عبد العظيم المطعني – مكتبة وهبة – طبعة 1420هـ – 1999م.
- المجتمع