الهجرة النبوية المباركة حدث عظيم، غير مجرى التاريخ الإنساني، وفاتحة عهد جديد ونهاية عهد مظلم في تاريخ البشر، هجرة من نصر الشعوب المظلومة، والطبقات المقهورة المهضومة، هجرة من نشر في العالم الرازح تحت نير الظلم والعدوان والرقةِ والعبوديةِ، الحريةَ والعدالة و المساواة، والرحمة والرأفة، هجرة من نقل الدنيا من الظلام إلى النور، ومن الشقاء والحرمان إلى الرخاء والحنان، فلم تكن الهجرة سفرًا من مكة إلى المدينة، بل كانت انتقالاً من الظلام إلى النور.
كانت الدنيا في القرن السادس الميلادي في الجهالة الجهلاء، والضلالة العمياء، والحماقة الحمقاء، والكفر البواحِ، وكانت الدماء مفاحة، والملكُ عضوضاً، والأمةُ شَعَاعاً، وكانت الأرض موحشة من أهل الإسلام والإيمان، والآفاق ممتلئة من عبدة الأصنام والأوثان، وكانت البدع مشتعلة في الدين، والظُلَمُ مُطبِقَةً على الناس أجمعين، وصار الحق رسماً عافياً، وخلقاً بالياً، ميتاً وسط أموات.
وكانت قد رثت فيه حضارة الأولين، ونُسِي الدينُ، وعادت العباداتُ عادات، والعلمُ ترديداً بلا فهم، والفنُ تقليداً بلا تجديد، وأخذ الملوك الطغاة بمخانق الأمم والشعوب، ونخرت الفوضى عروشَ الطغاة، وسكت العلماء وفروا إلى الصوامع والأديرة، وأيس المصلحون، واختفوا في الأغوار والمغارات، وأوشكت الإنسانية أن تتردى في هوة ما لها من قرار.
هنالك وقد غلب اليأس، انبلج صبح الحق والنور، بعث الله الفرج على يد رجل من القريتين عظيم.
فقام هذا الرجل العظيم وحده بإنقاذ البشرية الغارقة في بحر الظلم والطغيان والشقاء، إلى بر الأمن والسلام والسعادة الدائمة، ودعا إلى الله وحده، وتوحيد رب العالمين، وتحطيم الأصنام والأوثان، فإنها لا تضر ولا تنفع، وأعلن مدوياً مجلجلاً: قولوا أيها الناس: لا إله إلا الله، فاعبدوه، واتركوا آلهتكم، و الناس كلهم سواء، لا فضل إلا بالتقوى والأخلاق، فثارت به قريش وقام عليه العرب، و رموه عن قوس واحد، وأضرموا البلاد عليه ناراً، فإذا تعدت قريش في الطغيان، وبلغ السيل الزبى أذن الله لرسوله وأصحابه بالهجرة، فكانت الهجرة إلى المدينة، ولكن ليست انتقالاً من مكة إلى المدينة، ولا سفراً كالأسفار العادية، بل كانت الرحلة الأولى للحملة على الكفر والشرك، والفحشاء والمنكر، والتفاوت الطبقي، والتمييز العنصري، والعداوة والكراهية بين إنسان وإنسان، ثم امتد هذا الزحف ضد الباطل، فكانت المعارك والفتوحات …، جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً، ووجدت الإنسانية بلسماً لجروحها واستقر الأمن والعدل .
وقام مجتمع إنساني فاضل، أصبحت الهيئة البشرية فيه طاقة زهر لا شوك فيها، وأصبح الناس جميعاً أسرة واحدة، أبوهم آدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى، وزالت الفوارق والمعايير المزدوجة، والاعتبارات المصطنعة، وماتت الحمية الجاهلية، وأصبحت الطبقات والأجناس في المجتمع الإسلامي متعاونة متعاضدة، لا يبغى بعضها على بعض.
انتشر المسلمون بعد الهجرة في أرجاء المعمورة، وفتحوا الأرض، فلما انقادت لهم الأرض فتحوا القلوب بالعدل، والعقول بالعلم، ما عرفت الدنيا أنبل منهم ولا أكرم، ولا أرأف ولا أرحم، ولا أرقى ولا أعلم، ولا أجل ولا أعظم، وسعدت الإنسانية بالأمن والسعادة الأبدية، فكانت الهجرة في الحقيقة نقلة من الماضي الأسود الكئيب إلى المستقبل المشرق المنير… فإن المنار الذي اهتدت به القافلة الضالة والسفينة الحائرة، إنما خرج من غار ثور، إن العالم قد سار نحو الكمال والجمال يوم سار محمد صلى الله عليه وسلم نحو الغار.
وإذا تمّت الهجرة تمكن المسلمون الذين كانوا ضِعافاً مستخفّين يخافون أن يتخطفهم العرب وتداعى عليهم الأمم وتستحملهم الحروب، من التربع على عرش المجد والعز، وتملّكوا زمام الدهر، وهدّموا صروح الظلم والاستبداد التي بناها كسرى وقيصر، وشادوا على أنقاضها صروح العدل والحرية التي جاء بها سيدنا محمد بن عبد الله الأمين صلى الله عليه وسلم، فنعمت الشعوب والأمم بالحرية والعدل في ظلال الإسلام الوارفة.
إنه لو لا الهجرة ـ كما كتب على الطنطاوي ـ ولو لا الفتح الإسلامي ما خرج العالم من الهوة التي دفعته إليها أرستقراطية السادة الأشراف، وجبروت المستبدّين الطغاة، ولا كانت الحضارة المعاصرة، ولو لا الهجرة لما كانت بغداد، ودمشق، والأندلس، وغرناطة، وطليطلة، وسمرقند، وبخارى .. ولولا قرطبة وطليطلة لم تكن باريس، ولا لندن، ولا نيويورك، فلو أنصف هؤلاء المتمدنون لجاؤوا تحتفلون معنا ذكرى الهجرة”.
ناضل المسلمون بالقرآن الكريم وجاهدوا بالإيمان، ونفضوا الأرض بالأسوة المحمدية ـ على صاحبها ألف ألف تحية وسلام ـ وبها انتصروا وظفروا، فما دمّروا الحضارة، ولم يقضوا على العلم، لأن دينهم دين الحضارة، وشريعتهم شريعة العلم، فعملوا لنشرهما وسعوا لإبلاغهما جاعلين الدنيا لهما مقياساً والشريعة ميزاناً، فلم تكن إلا ردَّة الطرف، حتى فتحوا الأرض بنصر الله، وأصبحوا ملوكها وسادتها.
فإن الإسلام لم يعتره البلى ولا الضعف، إنه لا يزال غضاَ طرياً كيوم نزل به الوحي، وإن العالم الحائر اليوم يترقب بلهفة إلى من يضع البلسم الشافي على جروحه، ويأخذ بيده من الظلام إلى النور، فاعرضوا عليه الإسلام والإسلام هو الحل، إن الدين عند الله الإسلام.