كيف تُسقط تفسير الطبري(ت:310) أكبر ترسانات التفسير النقلي عند أهل السنة؟ في لحظات وبدون شيخ!
ركزوا قليلا:
عند تفسير قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ [البينة:7]
أورد ابن جرير الطبري في تفسيره «جامع البيان» ضمن مسرد من الروايات هذه الرواية:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا عيسى بن فرقد، عن أبي الجارود، عن محمد بن عليّ ﴿أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ فقال النبي ﷺ: «أنْتَ يا عَلي وَشِيعَتُكَ».
ها هو الطبري ضبطناه متلبسًا يورد رواية مدسوسة في تراث أهل السنة وأكبر موسوعاتهم التفسيرية تثبت أن عليًا وشيعته هم (خير البرية).
انتظر قبل أن تقود بروباجندا حول الموضوع:
عملية اصطياد الروايات طريقة سهلة ومتاحة اليوم عبر التقانة الحديثة، لكن هل فهمت ابتداء طريقة عمل الطبري مع هذه الروايات؟!
هل تعرفت على منهجيته في تفسيره وطريقة أدائه فيه؟!
يعمد الطبري ابتداء إلى جلب واستقدام أقوال الطبقات الثلاث المتداولة في عصره، غثها وسمينها، سواء كانت نقلية، أو لغوية، أو فقهية، ويضعها تحت مطارق الترجيح والنخل حاملا لواء القواعد الأصولية واللغوية والأدلة في إثباتها أو تضعيفها، فهو لا يجلب تلك الروايات للاستشهاد بها والتسليم لها، وإنما يذكرها، ثم يذكر إن هناك أقوالا أخرى ضعيفة ويسوقها.
ففي هذا الموضع يقول مقررا رأيه في تفسير الآية قبل سرد تلك الرواية: «يقول تعالى ذكره: إن الذين آمنوا بالله ورسوله محمد، وعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأطاعوا الله فيما أمر ونهى ﴿أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ يقول: من فعل ذلك من الناس فهم خير البرية». «جامع البيان»، (24/556).
هذا هو رأيه الوحيد في تفسيرها، ثم ينقل مختتما بتلك الرواية الضعيفة للدلالة على ضعفها فهي من رواية ابن الجارود(ت:150) وهو كذاب على الساحة الحديثية، بل أطلق عليه أبو جعفر(ت:114): (سرحوب البحر) لكذبه، وموقف الجارودية في تسويق هذه الأكاذيب مشهور، وقد علق عملاق التحرير الحديثي في القرن التاسع ابن حجر العسقلاني(ت:852) على هذا القول موجزا: «هذا كذب». «لسان الميزان»، (1/175).
فالطبري يورد روايته ليس للاحتجاج بها أو إقرارها؛ وإنما لأنها مخالفة لما أورده من المعنى الصواب.
الطبري لا يحقق في الأسانيد، وقد حكى في تأريخه مبرر ذلك: «وإنما أدينا ذلك على نحو ما أُدي إلينا» «تاريخ الرسل والملوك»، (1/8)، فهو يمضي على قاعدة: (من أسندك فقد أحالك)، وأن تلك المرويات قد خرجت من عهدته إلى عهدة الإسناد الذي أداه «كما ورد» كما هي قاعدة المحدثين التي شرحها حافظ المغرب أبو عمر ابن عبد البر (ت:463) في «التمهيد» (1/3)، وأورد ابن حجر(ت:852) وهو يترجم للطبراني (ت:360): أن «أكثر المحدثين في الأعصار الماضية إذا ساقوا الحديث بإسناده اعتقدوا أنهم برئوا من عهدته»، «لسان الميزان»، (3 /74).
أحال الطبري (ت:310) قراءه إلى سلاسل تلك الأسانيد ليتعقبوها بأنفسهم، ويتعرفوا حال رجالها، ويخضعوها لمطارق العمل العلمي، بعد أن أورد المعنى الصواب.
وقاعدته المطردة في التفسير: «أنه لا يحق لأحد حمل الآية العامة إلى شيء من المعاني الخاصة مالم يرد في ذلك حجة يجب التسليم لها». وقد أعملها في ربوع التفسير بصورة رائعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أخيرا: بمثل هذه الطريقة تستقدم الروايات، ويستشهد بها، ويحال عليها في كتابات العلماء، ثم يُقال أوردها الطبري … نعم نعم هي في تفسيره، لقد ضبطناه متلبسا.
هذا نموذج لطريق تلفيف الروايات، وإعادة صياغتها دون تحقيق.
من يتعرف على مناهج العلماء في مدوناتهم يهون عليه الخطب ويفهم طرائقهم في العمل والتدوين.
والله الموفق.