لكي يتحقق أي منجز وينجح أي منشط بأعلى كفاءة ممكنة لا بد له من أن يمر بثلاثة أطوار رئيسية: طور التفكير والتخطيط، وطور العمل والدأب، وطور المراجعة والنقد، بحيث يتم تغذية التخطيط لعمل جديد بالخبرات الناتجة عن مراجعة تفاصيل الأداء في العمل السابق.
ويمكن اعتبار رأس السنة الهجرية موسما مثاليا لمراجعة ما فات من أشهر العام وسنوات العمر، والتخطيط لما هو آت من أوقات وأعمال في ضوء الخبرات المكتسبة في الأعوام السابقة مع الحرص الشديد على تعظيم نقاط التفوق وتقليل مساحات الضعف إلى أبعد مدى ممكن.
ولأن النقد البناء ما زال أغلب الناس في مجتمعاتنا ينظرون إليه بتوجس فإننا نذكّر بأن النقد علاج مر لا بد من تجرعه، وإلا فإن الأدواء ستتفاقم وتصبح أمراضا مزمنة، وستتكاثر الأخطاء وربما صارت خطايا قاتلة!
ويمكن في هذا المقام تشبيه النقد بالثوم، فإن طعمه لاذع، ورائحته كريهة، لكن فوائده ﻻ تقدر بثمن، حيث أنه أشبه بصيدلية ضخمة تضم عدداً من الأدوية القادرة على تخفيف آثار التخلف وتجفيف منابع الانحطاط، وهو مفيد جداً في تقوية جهاز المناعة الاجتماعي، بحيث يصبح حساساً تجاه أي غاز أو تغيير سلبي.
ويُطهر النقد أمعاء الأمة من الشوائب ويخلصها من المخلفات الضارة، ويوقف إسهال الإمكانات وإهدار الطاقات، ويحارب أسباب الفساد، ويجفف منابع الشرور، ويتصدى لمراكز المنكر، ويفضح مخططاته أهله ومؤامراتهم.
ويساعد النقد جهاز التنفس الاجتماعي على تنسم أريج الحرية واستنشاق عبير الكرامة، ويزيل كوليسترول الآثام ودهون المعاصي، ويجعل حركة التجديد داخل شرايين المجتمع طبيعية، بعيداً عن الهبوط المميت أو الانفجار القاتل!
وينبغي أن لا ننسى أن المجتمع الذي لا نقد فيه، كـالجسم الذي لا كبد معه ولا كليتين له، فإن مهمة النقد هي فرز الأفكار، وغربلة الأخلاق، وفلترة العواطف، حتى يتم استبعاد الغث وترك الثمين، وينجح في طرد السموم الضارة واستبقاء العصارات المفيدة!
ونختم هذه العجالة بقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد}، فإن من يتأمل هذه الآية يجد في ثناياها دعوة جادة للجمع بين مراجعة الماضي (النقد) وبين استشراف الآتي (التخطيط). فإن قوله تعالى: {ما قدّمت} بالماضي ولم يقل ما تقدم أو ستقدم، إشارة واضحة إلى وجوب مراجعة ما أنجز بروح نقدية تستكشف مواطن الخلل وتراكم نقاط القوة وتجفف منابع الضعف؛ حتى يصبح التجهيز للمستقبل المشار إليه بعبارة {لغد} يصبح أكثر فاعلية.
وهذا يشمل الغد القريب في الدنيا والغد البعيد في الآخرة، ولا انفصام في الرؤية الإسلامية بين الدنيا والآخرة، فإن عمارة الأرض وصناعة الحياة وفق هدايات السماء هي الطريق المستقيم للوصول إلى مرضاة الله، وفردَسة الدنيا هي المسلك الأقوم لبلوغ الفردوس الإلهي في الآخرة.