تناولنا في الحلقة الأولى في قراءة مكامن مشروع الإصلاح المعرفي عند محمد عبده العوامل التي أثرت على أفكار التجديد وبواعثه، وبصفة خاصة العوامل الداخلية التي رآها مدارًا لأي حركة نهضوية أو تجديدية في العالم الإسلامي، وأكد في ذلك أن “الجمود” الذي شمل مجالات عديدة في المشهد الحضاري الإسلامي وتغلغل فيها هو العامل الأكثر تأثيرًا في حالة التراجع الإسلامي. ونتناول في هذه الحلقة ما يتعلق بقضايا الإصلاح التي أسهم في إعادة النظر إليها وطرح أفكاره التجديدية والنهضوية فيها.
إصلاح العقل
انشغل “محمد عبده” – في ضوء ما سبق – بإصلاح العقل المسلم، وإصلاح معارفه الأساسية، ووسائط فهم النص “الفقهاء” وأدواته تلك التي أصابها “الجمود والتقليد” و”التهافت” في ضوء اللقاء بالواقع المشهود. وقد أعطي “محمد عبده” مكانة قصوى “للعقـل” في عملية الإصلاح التي تعتمد في الأساس علي: إصلاح المعارف، والوسائط، والآليات، واعتبره (أي العقل) المركز في مشروعه الإصلاحي القائم على التوحيد والذي يسعي لتحقيق النهضة والتقدم المنشود؛ لذا فقد حرص على بناء نسق “معرفي/عقدي” يتولى فيه “العقل” مهمتين أساسيتين: الأولي: نقد الوضع القائم وما فيه من “جمود وتقليد” ونقضه، والثانية: إعادة تشكيل هذا النسق “المعرفي/ العقدي” في ضوء فهم الدين بالرجوع إلى مصادره الأولي مباشرة وكما فعل السلف. كما هدف في مشروعه الإصلاحي إلى “بناء منظومة عصرية يمكن أن تسهم بدور رئيس في التغلب على ضروب “الاغتراب” التي كانت مهيمنة في ذلك الوقت وتفصل بين الإنسان وعالمه” ([2]).
ومن الوظائف الأساسية لهذا النسق “المعرفي/ العقدي” إعادة الإنسان المسلم إلي عقيدته ومصادر فكره وتجديد الارتباط الوجداني بينهما هذا من ناحية، ومن ناحية أخري إعادة الإنسان المسلم إلي واقعه المشهود وذلك في ضوء التجديد العقلي والوجداني لهذا النسق المذكور. ومن ناحية ثالثة إعادة الاعتبار والثقة للمنهج الإسلامي باعتباره منهج حياة كما أنه منهج للآخرة، واستعادة حيويته المفقودة.
ومن الناحية الموضوعاتية فيما يتعلق بميادين الإصلاح الأساسية، فإنه يوضحها لنا في ثلاثة مناح أساسية ” الأول: تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين علي طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى، واعتباره ضمن موازين العقل البشري التي وضعها الله لترد من شططه، وتقلل من خلطه وخبطه، لتتم كلمة الله في حفظ نظام العالم الإنساني. وأنه على هذا الوجه يُعد طريقًا للعلم، باعثًا على البحث في أسرار الكون، داعيًا إلى احترام الحقائق الثابتة، مطالبًا بالتعويل عليها في أدب النفس وإصلاح العمل. وكل هذا أعده أمرًا واحدًا… أما الأمر الثاني فهو إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير، وهناك أمر ثالث… الناس جميعًا في عمى عنه وبعد عن تعقله، ولكنه هو الركن الذي تقوم عليه حياتهم الاجتماعية، وما أصابهم الوهن والضعف والذل إلا بخلو مجتمعهم منه. وذلك هو التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب وما للشعب من حق العدالة على الحكومة” ([3]).
توخى محمد عبده في مشروعه الإصلاحي-في ضوء هذه التحديدات السابقة – تحقيق ثلاثة أهداف متكاملة ([4]):
محاربة التقليد المذهبي والفكري بجميع صوره وأشكاله.
فهم الدين علي طريقة سلف الأمة، أي الرجوع مباشرة إلى القرآن والسنة، وليس إلى كتب الذين عمقوا الفوارق المذهبية وتوغلوا في الفروع.
الاعتداد بدور العقل في بناء المعرفة وقيادة المجتمع الإنساني، لأن الدين لم يجئ إلا لهداية هذا العقل نفسه، باعتبار الدين من موازين العقل البشري التي أراد الله بها أن يرد من غلواء العقل في تقدير سلطانه وإنكار منابع المعرفة الأخرى.
إصلاح التربية والتعليم
تشير الدراسات والبحوث إلى دور التربية والنظام التعليمي في تغيير المجتمعات، بل هي رائدة هذا التغيير وقائدته باعتبار أن الفرد المستهدف منها هو أساس تقدم ونهضة أي مجتمع. كما أن أي مجتمع هو انعكاس لنظامه التربوي. وهذا ما أدركه “محمد عبده” حينما أراد البحث عن السبب في تخلف المسلمين والذي رآه في تخلف نظام تعليمهم الديني”… وإذا استقرأنا أحوال المسلمين للبحث عن أسباب هذا الخذلان لا نجد إلا سببًا واحدًا، وهو القصور في التعليم الديني، إما بإهماله جملة كما هو في بعض البلاد وإما بالسلوك إليه من غير طريقه القويمة كما في البعض الأخر”. ([5]) والتعليم الديني كما وصفه “محمد عبده” لم يعد يهتم بالبناء العلمي والتربوي والعقدي للطالب (الدارس) بل أصبح له مجرد وسيلة لكسب العيش، بالإضافة علي المضامين السطحية للمعارف المقدمة فيه، واعتماده علي الحفظ والاستظهار دون الفهم، وفضلًا عن ذلك فإن القصور الواضح في التعليم الديني أدى إلى نشأة أنماط أخري من التعليم أكثر ضررًا علي المنظومة القيمية الإسلامية في تربية النشء، وفي مقابل التعليم الديني تأسست المدارس الحكومية التي استوردت العلوم التي نشأت في الغرب أي في بيئات اجتماعية وثقافية مختلفة بما لا يتوافق مع بيئة وطباع الأئمة لاسيما في نموذجها المعرفي الإسلامي، ويصف “محمد عبده” هذه العلوم في البيئة الإسلامية “كخلط غريب لا يزيد طبائعها (أي الأمة) إلا فسادًا”. ([6]) كما نبه إلى نمط آخر من التعليم تزيد مخاطره عن النوع السابق وهو التعليم الأجنبي بمدارسه الغربية والتبشيرية، ويقول في ذلك “…لا ترى بقعة من البقاع إلا فيها مدرسة للأمريكانيين، أو اليسوعيين، أو الفرير،[7] أو لجمعية أخري من الجمعيات الدينية الأوروبية. والمسلمون لا يستنكفون من إرسال أولادهم إلى تلك المدارس طمعًا في تعليمهم بعض العلوم المظنون نفعها في معيشتهم أو تحصيلهم بعض اللغات الأوروبية التي يحسبونها ضرورية لسعادتهم في مستقبل حياتهم” ([8]).
والناظر إلى ما أورده “عبده” في وصفه لحالة التعليم في العالم الإسلامي آنذاك يجد أنه كان صاحب نظرة عميقة ومستقبلية في آن واحد. فلاحقًا أثبتت الشواهد أن التعلم الديني يعيش فعلًا في أزمة لا زالت حتى الآن. ورغم الكتابات الكثيفة والاقتراحات المتعددة ([9])، إلا أنها لم تستطع أن تحل ما وقع فيه التعليم الديني من مشكلات “الجمود والتقليد” و” التراجع” ومن ثم ظل التعليم الديني يعيش أزمة لم تنته.
ومن ناحية أخري يعيش العالم الإسلامي حالة الازدواجية المعرفية بين هذا النمط من التعليم (الديني) والتعليم الرسمي الحكومي (المدني) الذي يهمل العلوم والمعارف الدينية، وتزداد الفجوة بينهما كلما بعدت السنون وهو ما أوجد شقًا معرفيًا في الشخصية المسلمة لم يلتئم بعد. أما التعليم الأجنبي والتبشيري فقد التفتت إليه كثير من الأقلام والأفكار آنذاك نظرًا لمخاطره على العقيدة والفكرة الإسلامية بما يحمله من أفكار وقيم غربية تختلف مع الأفكار والقيم الإسلامية ([10]). بالإضافة إلى الأبعاد الاجتماعية والثقافية للتعليم الأجنبي في المجتمع المسلم. وقد استخدم التغريب التعليم كأداة للتأثير في الهوية الإسلامية.
كما يعد التعليم أحد أدوات التغريب في العالم الإسلامي باعتباره كما ذكر “جب” في (وجهة الإسلام) “أهم العوامل التي تعمل على تغريب العالم الإسلامي وتقوم به جهات متعددة وعلى مستويات مختلفة من المدرسة والكلية والجامعة …وقد رأينا مراحل دخول هذا التعليم (الأجنبي) في بلاد الإسلام المختلفة ورأينا الأثر الذي أحدثه في عقول الزعماء العلمانيين وقليل من الزعماء الدينيين في العالم الإسلامي”([11]).
أما عن وجهة نظر “عبده” الإصلاحية للنظام التعليمي والتربوي الديني، فتؤكد على النظرة الشاملة والإصلاح الكلي لجوانب العملية التعليمية: الأهداف، الخطط، الوسائل، المناهج، المقررات، المعلمين، السياسات. حيث انتقد النظرة الجزئية التي تهتم بالجانب الشكلي دون الاهتمام بجوهر التعليم نفسه وعناصره الأساسية وأهدافه “وإن مجرد إصلاح الجداول بإدراج بعض الكتب الفقهية في فنون المدارس الإسلامية مع بقاء التعليم على طرقه المعهودة في المساجد وفي دروس بعض العلماء… فإن ذلك يكون أشبه بالباطلة في عدم ترتيب الأثر المطلوب عليها ([12]).
كان “عبده” يؤمن إيمانًا عميقًا بأن إصلاح التعليم الديني هو العامل الأول لتحقيق نهضة المسلمين واللحاق بأوروبا في علمها الذي أبدعته وسبقها- أيضًا – كما فعل المسلمون الأوائل مع علوم الهند واليونان “إن إصلاحه – أي الأزهر- خير صلاح لحال المسلمين الدينية الدنيوية … ولو صلح حال الأزهر، لهب المسلمون إلى طلب العلوم الصحيحة، كما هبوا لذلك في أول نشأتهم”([13]).
ويمكن أن نلخص رسالة الأزهر كما تراءت له حينئذ في أن يكون جامعة بالمعني الصحيح، يتلقى فيها الطلاب الثقافة الصحيحة التي تعدهم لأن يكونوا رجالًا عاملين، فيكون هناك قضاة ذو نزاهة، وأساتذة باحثون وعلماء متخصصون ومرشدون مخلصون، يعملون على بث الآراء الدينية السليمة، والمعاني الأخلاقية الرفيعة ومكافحة الخرافات، والقضاء على البدع والأباطيل” ([14]).
وفي ضوء هذه الرؤية الإصلاحية دعا إلي تقنين الدراسة ومراحلها ومدتها وذلك تقليلًا للهدر في الجهد والوقت والتكلفة، ثم ربط التعليم بالتربية والأخلاق، والنظر بالعمل والتطبيق وهذا أدعي إلي أن تتضمن المناهج الجديدة ” فن تقوى به العقيدة، ويستحكم سلطانها علي العقول، ثم إلي تربية تذكر بما تنال النفس من ذلك الفن، فيكون التذكار مستحفظًا لما يصل إليه منه، ثم إلي فن الفقه الباطني وهو ما تُعرف به أحوال النفس وأخلاقها…ثم إلي تربية تحفظ ذلك، ثم يكون التعليم علي هذه الفنون المذكورة والتربية علي وفق قواعدها مستندين إلي الشرع الحنيف… فالمقصد بالذات علمان، وهما أصلان ومجموعهما ركن من الإصلاح، والركن الآخر في التربية بما يهديان إليه حتى تصير العلوم ملكة راسخة تصدر عنها الأفعال بلا تعمل، ثم يتبعها فن آخر يقوي علي الغرض منهما، وهو فن التاريخ الديني” ([15]).
كما دعا– أيضًا –إلى تقسيم العلوم إلي علوم مقاصد، وعلوم رسائل، فأطيلت مدة الدراسة في “علوم المقاصد”: كالتوحيد والتفسير والحديث والفقه وأصوله والأخلاق، أما علوم الوسائل “كالمنطق والنحو والبلاغة ومصطلح الحديث وضم إليها الجبر والحساب وهذه العلوم بقسميها هي التي يلزم طلاب شهادة العالمية بأداء الامتحان فيها” ([16]).
دعا عبده – أيضًا –إلي نظام تعليمي للدراسة في الأزهر تنقسم فيه من حيث النوع مناهجه ومقرراته بما يتناسب مع الهدف من التعليم منه، فهناك العمال (الصناع والزراع والتجار ومن يتبعهم) وهناك طبقة الساسة والتي تدبر أمور الدولة، وهناك طبقة العلماء من أهل الإرشاد والتربية فأشار إلى التعليم المناسب لكل من هذه الطبقات و”تحديد ما يلزم لكل واحدة ” ([17]). ثم دعا– أيضًا– إلى تقسيم السلم التعليمي إلى ثلاث مراحل الأولى: التعليم الابتدائي، والثانية: المتوسطة، والثالثة العالية. واجتياز هذه المراحل يكون عن طريق نظام التقويم “الامتحان” وهو ما لم يكن معروفًا في الأزهر آنذاك.
وفي ميدان “تأهيل المعلمين” رأى ” ضرورة إعادة إعدادهم بما يتناسب مع وظيفتهم ومكانتهم التي أعطيت لهم كفقهاء، وكذلك وضع قواعد وسياسات قبول لهم “فلابد أن يُنظر في انتخابهم من المستعدين للفهم وقبول الإصلاح بقدر الإمكان”. ([18]) ثم طرح محمد عبده مجموعة من المعايير التي يجب أن تتوافر في مدارس إعداد المعلم آنذاك مدرسة “دار العلوم”، ومنها: إلغاء بعض الكتب الفقهية العقيمة التي تدخل في المقررات والمناهج، تغيير طرق التدريس لاسيما ما يتعلق بتفسير القرآن والأحاديث، أن يكون المسئول الأول فيها عالمًا بالدين، إعطاء الإجازات العلمية للتدريس في الأزهر، اعتبار المحور الأخلاقي في التقويم، إدخال التربية العملية في نظامها الأساسي”.
يتبع إن شاء الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] أستاذ أصول التربية- جامعة دمياط.
([2]) يوسف سلامة: “النـزعة العقلية عند محمد عبده”، الفلسفة والعصر، القاهرة، العدد الأول، أكتوبر 1999، ص38.
([3]) محمد رشيد رضا: تاريخ الأستاذ الإمام، ج1، القاهرة، دار المنار، 1344هـ، ص 11-13.
([4]) محمد الكتاني: جدل العقل والنقل في مناهج التفكير الإسلامي، جـ2، الدار البيضاء، دار الثقافة، 2000، ص172.
([5]) محمد عبده: الأعمال الكاملة، حـ3، تحقيق وتقديم: محمد عمارة، القاهرة، دار الشروق، 1993، ص78.
([6]) محمد عبده: “ماضي الأمة وحاضرها”، العروة الوثقى، ص17.
[7] طوائف أنشئت مدارس في المجتمع المصري في نهاية الثامن عشر واستخدمت كذلك للتبشير والاستشراق.
([8]) محمد عبده: الأعمال الكاملة، حـ3، مرجع سابق، ص77.
([9]) انظر: – طاه جابر العلواني: التعليم الديني بين التجديد والتجميد، القاهرة، دار السلام، 2009.
([10]) انظر فتوى محمد رشيد رضا: تعليم أولاد المسلمين في المدارس اللادينية الحكومية وغيرها أو مدارس النصرانية، المنار، مجـ32، ج3، ص178 – 181، 1350 هـ.
([11]) هاملتون جب: وجهة الإسلام.. نظرة في الحركات الحديثة في العالم الإسلامي، ترجمة محمد عبد الهادي أبوريده، القاهرة، المطبعة الإسلامية، 1933، ص214.
([12]) محمد عبده: الأعمال الكاملة، جـ3، مرجع سابق، ص80.
([13]) محمد رشيد رضا: تاريخ الأستاذ الإمام، حـ1، مرجع سابق، ص543.
([14]) عثمان أمين: الإمام محمد عبده رائد الفكر المصري، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، د ت، ص190.
([15]) محمد عبده: الأعمال الكاملة، حـ3، مرجع سابق، ص 80 – 81.
([16]) عثمان أمين: مرجع سابق، ص191.
([17]) محمد عبده: الأعمال الكاملة، حـ3، مرجع سابق، ص80.
([18]) المرجع سابق، ص118.