آخر الأخبار

رحمك الله يا أبا حاتم! بعض محطات اللقاء، ومشارق الإخاء

كتب | رشيد العطران

الملتقى اليمني

عرفت الشيخ أمين أبو حاتم قبل خمسٍ وعشرين سنة تقريبًا، عرفته وهو يشار إليه بالبنان، رغم صغر سنه حينها، وذلك في مسجد المشهد، الذي كان يدرس فيه شيخنا الراحل/ عبد المصور العرومي، العالم اللغوي، الذي إن رأيته ذكرت الله، لجمال محياه، وإشراقته بوضاءه إيمانية عجيبة، فرحمه الله ورحم الله أبا حاتم.

كان من محاسن الشيخ أمين أبو حاتم علي أن درسني في بيته [الأصول من علم الأصول] للشيخ ابن عثيمين رحمه الله، وقد خصني به في بيته، ولم نكمله لسبب عارض سفري عن اليمن، وأما محاضراته العامة فكثيرة لا تحصى، وكم بكى وأبكانا فيها، فهو فارس من فرسان المنابر الفصحاء، وأحد الذين نابذوا الغلو والشطط، وعمل على التواصل مع الجميع بالتي هي أحسن!

كان الشيخ أبا حاتم يحب الأدب، ويحب محاسن المقابلات اللغوية، ويسعد بالبيت الشعري إذا كان ذا قيمة معنوية وأدبية، ولشدة تعلقه باللغة، يظن البعض أنه يتكلفها في حديثه معهم، وما هو إلا أثر اللغة عليه.

مرةً كنت التقيت به قبيل صلاة المغرب تقريبا، عند المواضئ في دار الحديث بمارب، وأثناء الوضوء، قال: رأيتك في المكتبة، ماذا كنت تقرأ؟ قلت له: شيئًا في الإدب؟ قال أسمعني من الأدب الذي قرأت؟ فكنت حينها بدأت كتابة الشعر، فسردت عليها الأبيات دون إخباره أنها لي.
فقال: أبيات جميلة.
فمن فرحي، قلت له: أكملُها؟
قال: نعم!
فقلت له:
ثم سلامي إليكم لا ينتهي
فأنا الرشيد أخوكم العطراني!

فقال: الأبيات لك؟
قلت: نعم.
قال: قصيدة مليئة بالزحاااااف هههههههه وأخذ يضحك، ورجع يحفزني ويشجعني، وقد قرأت عليه الكثير من قصائدي الأخيرة في لقائنا الأخير فأعجبته، وتلوت عليه شعر دكتورنا الحبيب إبراهيم طلحة فأعجب به غاية الإعجاب.

ومرةً أراد أن يقول بيت غزل من تأليفه، فقال بيتًا، لا زلت أذكرُّه به ويضحك، لأنني حفظته عليه لا له:

قال:
سهامٌ من عيونٍ ماجناتٍ
شظايا من أمكنها تطيرُ!

فكان إن رد بعض شعري، أذكره بقول الشاعر السابق، فيضحك!

سافرت معه مرارًا، معه ومع شيخنا الحبيب أبي زكريا يحيى الشامي، حججنا سويًا، اتفقنا واختلفنا، تقاربت ديارنا وتباعدت، لكن بقيت محبتنا كما هي، فما أن نجتمع في لقاء، حتى لكأنَّ الفراق لم يكن!

أينسى . .
المرءُ خلانًا
همُ في قلبهِ تبْرَا

أينسى . .
المرءُ أيامًا
له في ضوئِها خُبْرَا

محالٌ . .
أن ترى قلبًا
أحبَّ وما لهُ ذكْرَى!

أو ليس كذلك يا أبا حاتم؟!💔

كنت ولا زلت أصغرهم سنًا، وعلمًا، وقدرًا، وأراهم – حقًا وصدقًا – خيرًا مني، ولكنهم كانوا كبارًا، حين تواضعوا، وتعاملوا معي مذ كنت صغيرًا، كما لو أني قرينًا لهم، لا تجد الحواجز، ولا الرسميات، ولا أنا أعلم وأنت أقل، أنا أستاذك وأنت شيخي، بالفعل لا تشعر إلا بشيء واحد، وهو أنهم إخوانك!

كان بيته مفتوحًا لنا عندما كنا في مأرب، وكان من المشايخ الذي يحظون بحب واحترام عند شيخنا أبي الحسن السليماني، ولنا معه في تلك الأيام ذكريات لا تنسى، ولقاءات لا تمحى، وجلسات نرجو الله أن تكون شافعة لنا يوم يقوم الناس لرب العالمين.

الراحل أمين حاتم

كان الشيخ أمين مزوحًا، خفيف الروح، جميل المعشر، حسن التعليق، طيب الخاطر، فقيه نفس، كل من عرفه أحبه، وكل من جلس معه يشتاق إليه:

مرةً جاءه أحد الأخوة، وقد توفي رحمه الله أيضًا، قال يا شيخ أمين: توضأت وخرجت للصلاة، وأثناء ذهابي؛ [دحشني كلب]، فأجابه بلطافةٍ: هذي المسألة ليست علي، شوف لها المرور، تندرًا منه على كلمة دحشني.

ومرةً كنا في دورة حفظ القرآن، وكان هو في دورة حفظ السنة رغم كبر سنه، المهم شعر بفتور في الحفظ، فقال: لا بد أحتجم! وهو معتاد عليها، وباستمرار يحتجم، فنصحنا بها، فذهبت أنا ومجموعة من الأخوة معه، معنا الطالب الأول في حفظ السنة، أخونا عبد الرحمن الغَرَبي، وكان قوي الحفظ، [يسمِّع القرآن بالمقلوب لشدة حفظه غيبًا] وهو تجاوز لا ينبغي، عبد الرحمن في دورة الصحيحين الأسبوع الأول كان الأول على الدفعة، فلما سمع أن الحجامة تقوي الحفظ، ذهب معنا، طلبًا للمزيد من القوة، هههههه لكنه رجع بعدها فاترًا خاملًا لا يقدر على شيء من الحفظ، ومضى علينا أيام ونحن على حال عبد الرحمن، نوم بلا قدرة على الحفظ، والشيخ أمين يضحك!

ومرةً جاءه أحد الأخوة طالبًا، وكان محبًا ومعجبًا بالشيخ أبو حاتم، فكان ينقل عنه كل شيء، ويكتبه ويدونه، ولعله أخونا الشيخ عبد الرحمن ثعلب [أبو عبيدة]؛ فأراد الشيخ أن ينبهه لأهمية تحقيق الأقوال، فكان يملي على الأخ هكذا: وقد ذهب أبو حاتم في هذه المسألة لكذا، وقال أبو حاتم كذا، ولجودة لغة الشيخ جمع الطالب من أقوال الشيخ أمين الكثير، فكان الأخ يتحدث بتلك النقولات، ويظنها لأبي حاتم المحدث المعروف، فأخبره الأخوة أن هذه ممكن تكون أقوال أبو حاتم أمين، لا أبو حاتم المحدث، فتنبه، فجاء للشيخ وهو يضحك، وبعدها تغيرت طريقته في نقل الأقول!

وله مواقف طريفة، وتعليقات لطيفة، يمكن أن تجمع في كتاب رحمه الله.

آخر لقاء لي معه، كان قبل جائحة كورونا، كان قد تزوج بالرابعة حينها، والشيخ أبو زكريا يحيى الشامي بالثالثة، فكان يقول؛ وهم في بيتي:
لقد اجتمعت لك مكرمة ربما لم تسبق إليها، حيث يستظل تحت سقف بيتك رجلان كل منهما تجاوز القنطرة تعددًا، فأنا أربع ويحيى ثلاث، أو كلمة نحوها، ويضحك هههههههه ويقول: الله يخارجنا لا تسمعنا أم هارون.

للشيخ أمين مؤلفات في العقيدة، كشرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية، وله شروح على بعض المتون الأصولية، وعنده كتاب في تعدد الزوجات، كتبه من وحي التجربة، وله مئات الطلاب الذين درسهم في مركز الإمام الشوكاني، ومركز السنة في إب، ودار الحديث في مأرب، وفي شبوة، وفي السياني، وفي العدين، وفي غيرها.

رحمك الله يا شيخ أمين، إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا على فراقك يا أبا حاتم لمحزونون.

كَفَى حَزناً …
أَنَّ النَّوَى صَدَعَتْ
بِهِ فُؤَاداً مِنَ الْحِدْثَانِ لا يَتَصَدَّعُ

وَمَا كُنْتُ . .
مِجْزَاعاً وَلَكِنَّ ذَا الأَسَى
إِذَا لَمْ يُسَاعِدْهُ التَّصَبُّرُ يَجْزَعُ

فَقَدْنَاهُ . .
فِقْدَانَ الشَّرَابِ عَلَى الظَمَا
فَفِي كُلِّ قَلْبٍ غُلَّةٌ لَيْسَ تُنْقَعُ

وَأَيُّ فُؤَادٍ . .
لَمْ يَبِتْ لِمُصَابِهِ
عَلَى لَوْعَةٍ أَوْ مُقْلَةٍ لَيْسَ تَدْمَعُ

إِذَا لَمْ يَكُنْ . .
لِلدَّمْعِ فِي الْخَدِّ مَسْرَبٌ
رَوِيٌّ فَمَا لِلْحُزْنِ فِي الْقَلْبِ مَوْضِعُ

وفي الختام عزائي لأهله، وأبنائه، ولطلابه، ولزملائه، فالخبر مفجع، والرحيل موجع، والملتقى الجنة بإذن الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

مشاركة المقال