كتب | محمد عبدالرحيم
تعد عبادة الرضا بالقضاء والقدر إحدى العبادات الصعبة على بعض النفوس؛ ولذلك كانت أحد أركان الإيمان، وليس هناك بناء كامل يمكن السكنى فيه وأحد أركانه غير موجود.
إن مقتضى العبودية للخالق سبحانه وتعالى أن يسلم الإنسان أمره لله في كل قضاء يقضي به، وأن يعتقد أن في هذا القضاء خيرًا له، سواء أدرك ذلك أم لم يدركه، وهذه إحدى المسائل الشائكة في الفكر الإنساني؛ فأحياناً يرى الإنسان بلاءً ثقيلاً ومصيبة كبيرة نزلت بشخص، ساعتها يتفكر أين الرحمة الواسعة التي حدثتنا عنها النصوص الشرعية؟ بل أحياناً يرى مشاكل كبرى يقع فيها عباد الله الصالحون لا تتناسب مع ما يراه منهم من عبادة وصلاح وإحسان.
حقا إنها مشكلة كبرى عندما ننظر من زاوية واحدة، وعندما تأخذنا العاطفة بعيداً عن التفكير الصحيح، أو يصرفنا الفهم المتعجل عن النظرة المتأنية التي تدقق وتمحص وتنظر للأمر من جميع جوانبه.
لنقرر ابتداء عدة حقائق قد نتفق على بعضها أو نتناقش في بعضها الآخر.
ربما انتفع الكفار برزق الله عز وجل أكثر من المؤمنين، لكن لأهل الصلاح والتقوى والإحسان نصيب من رحمات الله تعالى لا ينالها غيرهم
كل بني آدم خطاء
إنه ما من أحد إلا ويخطئ، وإن جزاء الخطأ العقوبة أو العفو، وهذه العقوبة لا تترك في كل الأنظمة القانونية أو الاجتماعية للمخطئ ليقررها؛ بل هي مقررة سلفاً قبل أن تقع هذه الأخطاء. إذا اتفقنا على هذا فهل نقبل قول من يقول: هذه العقوبة أشد من هذا الذنب؟ وهل كل ذنب كما تراه أعيننا، أم أن هناك ذنوباً تتعدى صاحبها لتؤثر في غيره تأثيراً سلبياً؟ وقد يكون هذا الغير شخصاً واحداً وقد يكون آلافاً أو ملايين.
وإذا أردنا أن ندرك تأثير بعض الأفعال أو الكلمات على الآخرين فلنتابع الاقتصاد العالمي، وكيف يتأثر بخبر أو معلومة؛ فتنهار بورصات، ويفتقر الآلاف أو الملايين، ويغتني أفراد، وتوقف صفقات، وتنشط تجارات إلى آخر التبعات الاقتصادية لخبر صغير قد يصدر من صاحبه الذي لا يلقي له بالاً، أو يصنعه أحدهم صناعة محكمة مدركاً لأبعاده تماما، بينما ينظر إليه البعض على أنها مجرد كلمات وأن ما نزل بسببها من عقوبة أكبر مئات المرات منها.
هذا المثال يعطينا فكرة عن تأثير التصرفات الصغيرة على الملايين؛ سواء كانت هذه التصرفات حسنة أم سيئة، وقد اخترنا التصرفات السيئة لأن الحديث عن العقوبات الشديدة يراها البعض تتنافى مع مفهوم الرحمة الواسعة للرحمن الرحيم سبحانه وتعالى. والحقيقة أننا إذا نظرنا بمنظار العقل لسألنا أنفسنا سؤالاً: هل كل خطأ ارتكبناه نلنا العقوبة المناسبة في نظرنا أم أن الكثير من الأخطاء وقعنا فيها ونحن نعلم ونقصد وربما يتلذذ البعض بجريمته ثم لا يرى عقوبة لهذه الجريمة؟
ولعل أشد العقوبات تلك التي يموت على إثرها القلب؛ فلا يشعر بمقت الله وغضبه ولا يدرك حجم تأثير جريمته على القلب وعلى الآخرين.
ونحن لم نتحدث بعد عن التقصير في حق الله تعالى وفي حقوق البشر. بمعنى آخر نحن تكلمنا عن الأخطاء التي وقعنا فيها ولم نتكلم عن الذنوب التي تكتب على العبد بسبب عدم قيامه بما يجب عليه نحو الله ونحو الناس، ولهذه الذنوب عقوبات هل تتساوى مع ما وقع فيه البعض إذا اخترنا ذنب العقوق؟ كم يؤثر في الوالدين نفسياً وبدنياً؟ كم يؤثر الإهمال في الوالدين كم يجلب من أمراض؟
ثم لماذا لا يكون الابتلاء من الرحمة إذا كانت هذه المصيبة الثقيلة سبباً في توقف العبد ولو للحظات يراجع فيها نفسه ويجد العمر يمر دون أن ينجز شيئا ينفعه بين يدي الله؟ هل يعد إدراكه لذلك مكسباً حين ينتبه لنفسه ويدخر حسنات يجد أثرها في الدنيا والآخرة، ويكتشف أن كثيراً من الأصحاب الذين أعطاهم حبه وماله لم يجد أحداً منهم ساعة الكرب بل كانوا أسرع الناس فراراً منه؟ هل يعد إدراكه لذلك مكسباً حين يعيد النظر في القواعد التي اختار على أساسها أصدقاءه إذا وجد أن كل النصائح التي تجاهلها سابقاً كانت كفيلة أن تجنبه ما وقع فيه من مصيبة أو على الأقل تخفف منها؟ هل يعد ذلك مكسباً يجعله يستمع لنصائح الآخرين بقدر أكبر من العناية ويختار منها ما يناسبه؟ هل تجعل المصيبة الثقيلة بدروسها الصعبة منه حكيما يلجأ الناس إليه ليستفيدوا من خبراته هذه الخبرة التي اكتسبها بالدم والدموع؟ لكن سينتفع بها أناس دون دم أو دموع ويذكرونه بالخير أو يذكره الله تعالى في الملأ الأعلى ويجزيه على تقديم هذه النصيحة الخير في الدنيا والآخرة.
طبيعة الدنيا
حقاً إن رحمة الله واسعة تغمر الكافر والمؤمن؛ بل ربما انتفع الكفار برزق الله عز وجل أكثر من المؤمنين، لكن لأهل الصلاح والتقوى والإحسان نصيب من رحمات الله تعالى لا ينالها غيرهم ومع ذلك يصابون بابتلاءات ثقيلة ربما أفقدتهم ما يحبون من أهل ومال وولد، وربما وقعوا في ضيق شديد وكرب أليم هذا الأمر يشاهده كل الناس.
أهل الصلاح ينتظرون من الله تعالى حسن الجزاء في الدنيا والآخرة كما يتعلمون من أخطائهم فيتجنبونها ويصححونها
أهل الصلاح والتقوى يدركون طبيعة الدنيا وأنها ليست كالجنة هينة لينة بل خلق الإنسان في كبد هذا ما يهون عليهم ما يصيبهم من بلاء، ثم هم بعد ذلك يرون في هذه الشدائد من لطف الله تعالى وإحسانه إليهم ما يرسخ الإيمان في قلوبهم ويخرجهم من هذه الشدائد أصلب عودا وأقوى إيمانا وأقدر على التفكير الصحيح، وهم قبل ذلك وبعد ذلك ينتظرون من الله تعالى حسن الجزاء في الدنيا والآخرة كما يتعلمون من أخطائهم فيتجنبونها ويصححونها، ويكونون أكثر التجاء لربهم وأشد قربا منه.
ثم إن للبدن عباداته وللقلب عباداته وكل منهما يقوي الآخر، فإذا كانت الصلاة تؤدى بالجسد فإنها تترك آثارها الكبيرة على القلب والروح، وكلما كان القلب حاضراً في الصلاة عاد ذلك على البدن قوة ونشاطاً وعلى العقل ذكاء وتفكرا. ومن العبادات القلبية عبادة الرضا بما يقدره الله تعالى على العبد.
وإذا كانت الجنة درجات فمن يحصل على الدرجة العليا منها؟ إنهم أولئك الذين استسلموا لربهم وأسلموا ووجوههم لها وهم مع ذلك محسنون في أقوالهم وأعمالهم، ولا شك أن الجميع في اختبار كبير جدا عندما يفقدون عزيزاً أو يخسرون شيئا من الدنيا.
هل يسلمون تسليم العاجز الذي لا يملك شيئاً فيرضي نفسه بهذا التسليم الذي يعلنه بظاهره بينما قلبه وروحه ساخطة كل السخط؟ هل هذا هو ما يفعله المؤمن تجلداً وإظهاراً للقوة حتى لا يشمت فيه أعداؤه؟ أم أن المسلم ينظر بمنظار فهمه لطبيعة الدنيا وينظر بمنظار عبوديته لله فيرى أن الدنيا تختلف عن الجنة وأن مفهوم العبودية يعني إدراك أن الملك لله يفعل فيه ما يشاء.
ونحن نرى من يتبجح صباحاً ومساء ويعلن مع كل تجاوز للشرع والعرف والقانون أنه حر في جسده وفيما يملك وفي أبنائه، ويرى أن من حقه أن يتصرف كيفما يريد وقتما يريد لأنه حر مع أنه لا يملك نفسه ولا أمواله ولا أبنائه، ففي لحظة واحدة تضيع ولا يستطيع أن يحافظ عليها فإذا كان المخلوق الضعيف الذي لا يملك من أمر نفسه شيئاً يقول إنه يملك وإنه حر فيما يملك؛ فكيف يجوز لنا أن نعترض على مالك الملك سبحانه وتعالى؟
مفهوم العبودية
مفهوم العبودية يعني الإقرار بتمام العلم لله تعالى، بينما نحن لا نعلم عن أنفسنا ولا عن الكون من حولنا إلا أقل القليل، وهذا ما يكشفه العلم كل لحظة يكشف عن حجم ما نجهله عن أنفسنا وعن الكون من حولنا إذا كنا لا نعلم إلا القليل؛ فكيف نكوّن فكرة صحيحة عن الحادث العظيم الذي نراه ابتلاء ثقيلاً، بينما هناك ما هو أثقل وأعظم لكن الله تعالى لطف فقدر ما وقع علينا، ونحن لضعفنا وعجزنا وعدم تحملنا رأينا الصغير كبير، بينما هناك ما هو أكبر منه فلا يمكن أن نصدر حكماً صحيحاً يقدر الكارثة إلا إذا استوفينا العلم بكل تفاصيلها وما سبقها وهذا يستحيل على علم البشر القاصر.
المسلم ينظر بمنظار فهمه لطبيعة الدنيا وينظر بمنظار عبوديته لله فيرى أن الدنيا تختلف عن الجنة
مفهوم العبودية يعني الإقرار لله تعالى بتمام الحكمة بعد الإقرار له سبحانه بتمام العلم، هذه الحكمة التي تقتضي وضع الشيء في موضعه دون زيادة أو نقصان وفي الوقت المناسب، هذه الاعتبارات وغيرها مما يعجز علمنا عن الوصول إليه تجعلنا نرضى بقضاء الله تعالى عن علم وإيمان.
إنك تستقل طائرة أو سفينة وأنت مطمئن لمهارة القائد رغم أنك لا تعرفه ولم تره يقود طائرة قبل ذلك لثقتك بمن علمه القيادة، ولمن أجرى له اختبار القيادة مع أنك لا تعلم من هم ولا كيف يجرون هذه الاختبارات.
إن غياب هذه الأفكار التي قدمناها محاولة لفهم كيف تكون الرحمة واسعة مع وقوع الابتلاءات الشديدة، وغيرها من الأفكار التي تفسر هذا التساؤل المهم حتى لا تفسد على المرء دينه ودنياه وتجعل الشك يملأ القلب.
هذا التساؤل وغيره لا ينبغي أن يقف في أذهاننا يقلقها ويعطلها عن العمل، بل ينبغي أن نبحث لكل سؤال عن إجابة حتى ولو قابلنا البعض بالسخرية أو بالاتهامات؛ فأعظم الأبحاث هي التي تجري لمعرفة الحق.